وبعد الفراغ من بيان أوجه الفساد في المعارضات العقلية المدّعاة على أحاديث الرُّؤيا؛ يتصدى النظر لإجمال القول في بطلان مسالك الخارجين عن الجادّة في حقيقة الرُّؤيا. فإنّ ما ذهب إليه القائلون بأنّ الرُّؤيا مجرد خواطر، أو أثر من فعل الطبائع، أو الأخلاط، أو حاصل بعض المثيرات الخارجية، أو العضوية الداخلية = فإنّ هذا -إنْ صَحَّ- في بعض ما يراه النائم، لا يقتضي ذلك نفْي أن تكون بعض الرؤى من الله؛ بِأَنْ يُطْلِعَ اللهُ النائم على بعض الغيب والأمور المستقبلية = وأن يكون بعضُها حُكمًا من تلاعب الشيطان بالنائم. فإن ذلك متحقق كما سبق.
يقول الإمام القرطبي - رحمه الله -: (من أراد فهْم أنَّ الرُّؤيا لا تكون إلا عن أَخلاط = فهو باطل؛ بما ثبت عن الصادق فيما ذكرناه من الأحاديث: أن الرُّؤيا منها ما يكون من الله؛ وهي المُبشرة والمُحذِّرة .. وليس في قوَّةِ الطبيعة أن تُطْلِع على الغيب بالإخبار عن أمورٍ مستقبلةٍ تقعُ في المستقبل؛ على نحو ما اقتضته الرُّؤيا بالاتفاق بين العقلاء. ومن أراد فهم: أن الأخلاط قد تكون سببًا لبعض المنامات = فقد يُسلّم ذلك على ما قررناه. ثم يبقى نظرٌ آخر، وهو: أنه لو كان ما رتبوه صحيحًا للزم عليه ألاّ يرى من غلب خِلْطٌ من تلك الأخلاط إلا ما يناسبه، ونحن نشاهد خلافه، فيرى البلغمي النيران، والصعود في الارتفاعات. وعكس ذلك الصفرواي = فبطل ما قالوه بالمُشاهدةِ. والله وليّ المعاضدة)(١) .
يبقى نظر ثالث يضاف إلى ما ذكره القرطبي - رحمه الله -؛وهو: أن قضية الأخلاط وما ينشأ عنها حسبما تقرر في الطب القديم؛ إنما كانت بحسب
(١) المصدر السابق (٦/ ١٩)، وانظر "الروح" لابن القيم (٤٤)