[الكلام على التوحيد وتقسيمه]
قال المصنف رحمه الله: [أما بعد: فقد سألني من تعيَّنتْ إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر].
قوله رحمه الله: (من الكلام في التوحيد والصفات):
توحيد الله سبحانه وتعالى هو اعتقاد وحدانيته سبحانه وتعالى من جهة ربوبيته، ومن جهة ألوهيته وعبوديته.
ومن المعلوم أن المتقدمين من الأئمة -وأخصهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم- لم يستعملوا التقاسيم في زمنهم، وإنما ظهرت كثير من التقاسيم والتراتيب فيما بعد، وقد ظهر ترتيبان في تقسيم التوحيد:
فمنهم من يقول: إن التوحيد يتنوع إلى ثلاثة مقامات، ومنهم من يقول: ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
والحقيقة: أن الأولى أن لا يعبر بلفظ (الانقسام)؛ لأن التوحيد واحد، بمعنى: أن من حقق توحيد الألوهية لزم أن يكون محققاً لتوحيد الربوبية، وكذلك من حقق توحيد الربوبية فإن تحقيقه إياه يستلزم أن يكون منقاداً للإيمان والإقرار بتوحيد الألوهية.
فإن قال قائل: المشركون الذين بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قد ذكر الله في كتابه كثيراً في مثل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [العنكبوت:٦١] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ} [الزخرف:٨٧] فتجد أن الجواب أنهم يقولون: (الله)، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وذكر الإمام ابن تيمية أن إنكار الربوبية مطلقاً لم تذهب إليه أمة من الأمم.
هذا هو الذي يرد في كلام أهل العلم، وقبل ذلك هذا هو ظاهر كتاب الله سبحانه وتعالى في ذكر المشركين وما يقرون به من مسألة خلق السماوات والأرض، وخلق أنفسهم ولكن هل يلزم من ذلك أن هؤلاء المشركين كانوا محققين لتوحيد الربوبية؟
الجواب: لا؛ بل هناك فرق بين أن يقال: إن مشركي العرب وغيرهم كانوا مقرين ببعض أصول الربوبية، وبين أن يقال: إنهم كانوا مقرين بالربوبية في الجملة.
إذاً: مشركو العرب وغيرهم من المشركين كانوا غير محققين للإيمان الصحيح بتوحيد الربوبية؛ فإن من المعلوم أن المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام وغيرها من المعبودات كانوا يسألونها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ولا شك أن تعلق العبد بغير الله في مسألة قضاء الحاجات وتفريج الكربات هو جمع بين شركين:
الأول: الشرك في الربوبية.
والثاني: الشرك في الألوهية.
أما الشرك في الألوهية فلأنه دعا غير الله، وصرف عبادة الدعاء لغير الله.
وأما الشرك في الربوبية فلأنه اعتقد أن هذا المعبود من الصنم أو غيره قادر على قضاء الحاجات، وكشف الضر، وتفريج الكربات؛ ومعلوم أن هذا هو مقام رب العالمين، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام في براءته من عبودية المعبودات: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٧٧]
أيضاً: استقسامهم بالأزلام، فإنهم كانوا يستقسمون بالأزلام ويمضون على إمضائها ويردون على ردها، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت: فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (قاتلهم الله! أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط) رواه البخاري عن ابن عباس.
فالاستقسام بالأزلام على معنى الإمضاء والرد هو وجه من الشرك في ربوبية الله تعالى.
فالمقصود: أن ما ذكره الله في كتابه عن مشركي العرب أنهم يقرون بأن الله هو الخالق؛ هذا صحيح؛ لكن هذا الإقرار ليس على التحقيق التام والإيمان الصحيح بربوبية الباري جل وعلا، وإلا فإن من آمن على التحقيق بربوبية الباري سبحانه وتعالى انقاد لعبوديته وحده لا شريك له.
ومعلوم أن مشركي العرب كان يعرض لهم في بعض الصور أنهم يقرون بتوحيد الألوهية، فهل يصح أن نقول: إنهم مقرون بتوحيد الألوهية؟
الجواب: لا؛ فقد ذكر الله عنهم هذا الإقرار في مثل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:٦٥] فهذه حالة عارضة، ولكن الأصل في شأنهم هو أنهم مشركون.
إذاً: لا شك أن ثمة فرقاً في حال مشركي العرب وغيرهم بين مقام الربوبية، ومقام الألوهية، فإنهم ينكرون مقام الألوهية ويعجبون من شأنه {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥] وأما مقام الربوبية فإن الأصل أنهم يقرون به في الجملة.
وهناك فرق بين قولنا: إنهم يقرون به في الجملة، وبين قولنا: إنهم محققون له، ومؤمنون به إيماناً شرعياً صحيحاً؛ فإن هذا لا يقع لمشرك، وإنما يقع للمسلمين من أتباع المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
إذاً: التوحيد شيء واحد، وعندما يذكر أهل العلم أن التوحيد ينقسم إلى: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات؛ فإن هذا من باب التراتيب العلمية، وليس من باب البدع.
ومن أهل العلم من قال: إن التوحيد ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التوحيد العلمي: ويقصد به توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
القسم الثاني: التوحيد الطلبي: ويقصد به توحيد الألوهية.
وهذا الاصطلاح يستعمله ابن تيمية وجماعة من أهل العلم.
فهذا الترتيب من باب التراتيب العلمية، وهذه مسألة لا بد لطالب العلم أن يفقهها، حتى لا يُخْلَط عليه ما كان من البدعة وما كان من باب التراتيب العلمية.
فإذا قلنا: إنه ترتيب علمي، فمعنى ذلك: أن من تكلم به من أهل العلم قصدوا به الإيضاح والبيان، ولا يلزم أن يكون هذا الاصطلاح لازماً لكل أحد، وإنما الذي يلزم سائر المكلفين هو العلم بحقيقة هذا التوحيد، سواء علمها على أن التوحيد يتنوع إلى: علمي، وإرادي، أو علمها على أن التوحيد: ألوهية، وربوبية، وأسماء وصفات، أو علمها على أن التوحيد هو: وحدانية الله سبحانه وتعالى رباً، ومعبوداً، ومعظَّماً، ومنزَّهاً، ومفرَداً بالعبادة ..
إلى غير ذلك من سلسلة المعاني الشرعية.
فالذي يلزم سائر المكلفين أن يعلموه ويعملوا به: أن يتبعوا المعنى الشرعي، سواء عُبر عنه بهذا الاصطلاح أو بغيره، ولذلك ينبغي أن يكون طالب العلم على فقه في هذا المقام، فلا يتعصب لتقسيم أو اصطلاح معين من اصطلاحات أهل العلم، وينفي غيره من الاصطلاحات الصحيحة، ولا يطعن في هذا الاصطلاح بدعوى البدعة وما إلى ذلك، فإن هذا ليس من باب البدع؛ بل هو من باب التراتيب العلمية والإيضاح والبيان، وقد كثرت هذه التراتيب في العصور العلمية المتأخرة، وإلا فإننا إذا نظرنا إلى عصر الصحابة لا نجد أن عندهم حاجة إلى هذه التراتيب.
ولو قال قائل: لِمَ لَمْ يستعمل الصحابة هذه التراتيب؟
فالجواب: لقوة فقههم، وشرف علمهم، وسلامة فطرتهم، وقلة الشُّبَهِ في زمنهم، لم تظهر مثل هذه التقاسيم والتراتيب التي تبين الحقائق وتفصل الأمور، حتى لا يقع ضعف، أو اختلاط، أو تقصير في تحقيق المعاني الشرعية.