الكلام على قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)
قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء].
قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] هذه الآية من كتاب الله هي من نصوص التفصيل في مقام النفي لتحقيق كمال الإثبات، وقد استدل نفاة الرؤية من المعتزلة وغيرهم بهذه الآية على أن الله سبحانه وتعالى لا يُرى.
وهذه الآية إذا تأملت فيها وجدت أن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣] ومعلوم أن الإدراك للأشياء -سواء كان إدراكاً بصرياً، أو إدراكاً علمياً، أو ما إلى ذلك من أوجه الإدراك- ليس هو أصل المعنى السابق له، فإنه إذا قيل لك: هل تعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق .. إلخ؟
فإن الجواب سيكون: نعم.
فإننا نعلم من شأن الله سبحانه وتعالى وفعله وصفاته شيئاً، والعباد يعلمون ربهم، ولولا أنهم يعلمون ربهم، ويعلمون ربوبيته ووجوده وألوهيته ... إلخ؛ لما أمكنهم أن يعبدوه وأن يعرفوه، فهل هذا العلم الذي يُقر به المسلمون وغير المسلمين ممن يقر بالربوبية -هل استلزم عند المسلمين بسائر طوائفهم الإحاطة به سبحانه؟
الجواب: لا.
وهذا أمر مستقر، فإذا تحقق أنه يمكن أن يثبت الشيء ولا يثبت الإحاطة به، فكذلك الذي نفي في القرآن هنا هو الإدراك فقط؛ ومعلوم أن الإدراك قدر زائد على أصل رؤية الشيء، وهذا أمر معروف بحكم العقل الضروري المبني على الاطراد الحسي، فإنه مستقر عند بني آدم من المسلمين وغير المسلمين، من العرب وغير العرب- أن رؤية الشيء ليست هي الإدراك له، كما أنه يُعلم أن من رأى شيئاً لا يلزم أن يكون مدركاً له.
فهذا أمر مستقر عند أهل اللسان العربي وغير العربي من جهة المعاني، وإن كان أهل العربية يقصدون بهذه الكلمة هذا المعنى، فإن هذا لا يلزم أن يكون على اللسان المعبر، فكل من عبر بلسانه فإن هذا المعنى يكون ثابتاً عنده؛ لأنه معنى معلوم بالاطراد الحسي، وهو دليل قاطع.
فلما قال الحق سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] فإن الآية نفت القدر الزائد على الرؤية، وهنا يقال: إن الآية دليل على إثبات الرؤية، ووجه ذلك: أن يقال: إن تخصيص القدر الزائد بالنفي وحده دليل على أن ما دونه يكون ثابتاً؛ لأن ما دونه -وهو أصل الرؤية- لو كان منفياً أو ممتنعاً؛ لما كان هناك قصد إلى تخصيص القدر الزائد بالنفي، فلما خُص القدر الزائد وحده بالنفي؛ دل على أن ما تحته وما دونه داخل في الإثبات، ومن هنا يقول أهل العلم: إن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية، وليست دليلاً على نفيها، ومن المعلوم أن مذهب الأئمة رحمهم الله -أي: مثبتة الرؤية- أن الله سبحانه يراه المؤمنون ولكنهم لا يحيطون به.
فهذا من تحقيق الإثبات عندهم.
ولم يقل أحد من الأئمة من السلف ونحوهم: إن المؤمنين يرون ربهم ويحيطون به إبصاراً؛ بل إنهم متفقون على أن قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا يحاط به مع رؤيته؛ ولذلك فإنه لكماله ولتعذر أن يُحاط به سبحانه وتعالى، فإن الخلق لا يمكنهم لا في الدنيا ولا في الآخرة -حتى عندما يراه المؤمنون في دار كرامته- لا يمكن أن يحيطوا بذاته سبحانه وتعالى، أو أن تكون أبصارهم مدركة له إدراكاً على التفصيل.