قال المصنف رحمه الله: [فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش، كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}[الزخرف:١٢] ..
{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}[الزخرف:١٣] فيتخيل أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو انخرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها.
فقياس هذا: أنه لو عدم العرش لسقط الرب تبارك وتعالى، ثم يريد -بزعمه- أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار، ولا يعلم أن مسمى القعود والاستقرار يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم].
يقول المصنف: إن هؤلاء يفرضون لازماً من النقص على ظاهر النصوص؛ كقول الله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] فيفرضون لازماً لهذا الظاهر، فيقولون: لو أخذ بهذا الظاهر للزم أن يكون الله تعالى محتاجاً إلى عرشه، ونحو ذلك؛ ومن ثم يفسرون الآية بأن هذا ليس باستقرار وليس بقعود.
مع أنه من المعلوم أنه لو كان هذا اللازم ممكناً أو متحققاً -جدلاً- لما كان مختصاً من جهة النفي والإشكال بمسألة القعود وحدها؛ بل حتى لو فسر الاستواء بأي معنىً من المعاني، فإن هذا اللازم يوجب نفي ذلك المعنى، ولا يختص هذا بالتفسير بالقعود أو بغيره.
يقول رحمه الله: فعلم أن الإشكال ليس من هذا التفسير نفسه، وإنما من هذا اللازم الذي أدخلوه؛ ولذلك فإن هذا التوهم في تفسير الآية لا شك أنه وجه من التشبيه؛ وإلا فإن من عرف قدر الله سبحانه وتعالى؛ عرف أن الاستواء يختص به سبحانه وتعالى، وإذا كان مختصاً به امتنع فرض مثل هذه اللوازم من النقص؛ لأن هذه اللوازم لا تكون إلا لمن كان ناقصاً، وهو المخلوق، أما الخالق فإنه مجرد عن هذا النقص، وعن عروضه، وعن لزومه لصفاته سبحانه وتعالى.
وأما تفسير الاستواء: فإنه يفسر -كما سلف-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] أي: علا على العرش علواً يليق بجلاله.
وقوله:(وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم):
أي: أنه ليس الإشكال في تفسير الاستواء بالاستقرار أو بغيره، إنما الإشكال في فرض هذا اللازم، وهذا ليس من باب أن المصنف يسلم بهذا التفسير، أو يريد أن يسلم بهذا التفسير، فإنه قد درج في تفسيره لآيات الاستواء على العرش على ما درج عليه الأئمة من أن معنى قول الله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] أي: علا على العرش، ونحو ذلك من المعاني التي هي مرادفة لهذا المعنى، وأما طريقته هنا فأراد منها بيان أن هؤلاء متحكمون فيما يثبتونه وما ينفونه، أو فيما يفسرونه وما يمنعون التفسير به.