[خطأ الاكتفاء في الإثبات بمجرد نفي التشبيه]
قال المصنف رحمه الله: [فصل: وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه؛ إذ لو كفى في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف الله سبحانه وتعالى من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه].
ولذلك فإن من حكى عن أهل السنة وزعم أنهم يصفون الله تعالى بالصفات، ولكنهم يقولون: بلا تشبيه، كـ ابن الجوزي وبعض أصحابه، فإنهم يقولون: إنهم -أي: أهل السنة- يصفون الله بالنقائص ويقولون: بلا تشبيه؛ فإن هذا نوع من التحكم عليهم، وإن كان بعض الحنابلة قد غلطوا في الإثبات وزادوا فيه، فهذا مقام آخر، لكن المعتقد الذي كان عليه الأئمة رحمهم الله لم يكن بهذه الطريقة؛ بل إنهم يصفون الله بما يليق به، مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن من تحقيقهم أنهم إذا ذكروا ما وصف به نفسه قالوا: بلا تشبيه ولا تمثيل.
مع أنه من حيث الاقتضاء العقلي الأول أن مجرد إثبات الكمال للرب سبحانه وتعالى يعني أنه منزه عن النقص، وقد سبقت الإشارة إلى أن أدلة الإثبات تدل على الإثبات وتدل على التنزيه، كما أن أدلة التنزيه والتشريف له سبحانه وتعالى عن خلقه تدل على التنزيه، وتدل على لزوم ووجوب الإثبات.
قال رحمه الله: [كما لو وصفه مفترٍ عليه بالبكاء والحزن والجوع والعطش مع نفي التشبيه، وكما لو قال المفتري: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم، كما يقال: يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم، حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً!].
وهذا التفصيل لم يقل به أحد من أهل القبلة، وإنما ذكره من ذكره مضافاً إلى بعض المذاهب: إما أنه أضيف إلى مذهب أهل السنة من مخالفيهم، وزعموا أنهم يقولون بمثل هذا الكلام، وهذا كذب عليهم، أو أن بعض من رد من المتأخرين على بعض المجسمة -كالكرامية من الحنفية- ربما أضاف إليهم في رده أنهم يقولون بهذا، فإن هذا من مفهوم التجسيم عندهم، مع أنه إذا ذكرت الأقوال فلا بد أن تذكر على حقائقها، ويفرق بين ما كان من الأقوال حقيقة عند صاحبه وما كان لازماً له.
فإن قال قائل: فإن الأئمة قد ذكروا في وصف مذاهب بعض أهل البدع ما كان لازماً لهم.
قيل: ذكره هنا ينبغي أن يفقه على ما ذكر أنه من باب اللازم، فإن قيل: لماذا ذكروه وهو ليس من قولهم؟ قيل: ذكروه لكونه لازماً، ومعلوم أن اللازم إذا كان معلوم الفساد بديهة، عرف به أن القول في أصله معلوم الفساد، فإن الحكم على اللازم يلزم في ملزومه.
فمثلاً: من أقوال مرجئة الفقهاء: أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، ويقولون: إن الإيمان واحدٌ من كل وجه، لا يقع فيه زيادة ولا نقصان، ويقولون: إن إيمان جبريل وأبي بكر كإيمان الفساق، فالجملة الثالثة - وهي قولهم أن إيمان جبريل وأبي بكر كإيمان الفساق- تسمى من باب اللوازم، وإلا فلا يوجد أحد من الفقهاء أو المرجئة أو عامة من يتكلم بهذا يقول بذلك، إنما هذا يقوله بعضهم في رده على حماد بن أبي سليمان وغيره.
إذاً: لو أن أحداً من النظار بنى مسألة الإثبات على نفي التشبيه، فإنه يجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: هو ما قرره المصنف، وهو أن الطرق الشرعية يمكن أن يستعمل فيها ما هو أفصح وأصدق من هذه المادة.
الوجه الثاني: أن يقال: لو سلم أن هذا صحيح -مع أنه صحيح من وجه، وهو إذا كان مفسراً أو مقترناً- لأمكن أن يوصف بالأكل والشرب مع نفي التشبيه؛ ولكن هذا اللازم لا يلزم من قال: إن الإثبات مبني على نفي التشبيه لزوماً صادقاً، بمعنى: أنه حتى لو قال: إن باب الإثبات مبني على نفي التشبيه، فإن هذا يمكن أن يفسر على المعاني الصحيحة، وأما أن يقال: إن هذا يلزم منه أن يوصف بالأكل والشرب مع نفي التشبيه، فإنه يجاب عنه بأن وصفه بالأكل والشرب مع نفي التشبيه تناقض؛ إذ كيف يقال: إنه يوصف بالأكل والشرب، ثم يقال: مع نفي التشبيه؟! وهذا هو كقول القائل: يوصف بالأكل والشرب مع نفي ذلك عنه، فإن هذا تناقض، فكذلك إذا قال: يوصف بالأكل والشرب مع نفي التشبيه كان متناقضاً؛ لأن صفة الأكل والشرب هي وجه من أوجه التشبيه والنقص.
ومما ينبه إليه: أنه لا ينبغي لأحد أن يستطرد فهمه في مسألة التشبيه ليظن أنها مسألة لا توجد قدراً من الصواب، إنما المصنف يسوقها على نوع من الاختصاص في التعبير، والاختصاص في المراد، فمن قرأها أو شرحها فلابد أن يفهم مراده في معناها، ولا بد أن يكون مدركاً لطريقة سياق كلامه وموجبه.
قال رحمه الله: [فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات: ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته إذا نفيت التشبيه، وجعلت مجرد نفي التشبيه كافياً في الإثبات؟ فلابد من إثبات فرق في نفس الأمر].
وهذا من باب الإلزام في الحجة: أنه إذا نفى بعض الصفات وأثبت بعضاً على هذه المادة، فإنه يكون متناقضاً؛ لأنه لا فرق بينهما، ولا بد عليه أن يثبت الفرق وإلا كان متناقضاً.