للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المنهج الوسط في بيان الحقائق الشرعية]

وهذا يبين معنى من الفقه في الحقائق؛ سواء كانت حقائق شرعية أو غير شرعية, وهو أن التشقيق الزائد للأشياء ليس هدياً من جهة العقل، ولا هدياً من جهة الشرائع، فإن بسائط الأشياء لا ينبغي أن يبالغ في تشقيقها وتقريرها، وهذه الإشارة لها تفصيل يسع، وذلك مثلما قيل في مسألة التفسير، فعندما يقال: تفسير القرآن.

لا يفهم من هذا أن كل آية من القرآن لابد أن يستعمل لإبانة معناها حرف آخر؛ بل يقال: إن كثيراً مما في القرآن، أو أكثر ما في القرآن، بالنسبة لأهل العلم، وأهل المعرفة بالشريعة، وحتى الكلمات النبوية هي في ذاتها كلمات بينة، وكلمات مفسرة من نفسها.

وعليه: فلا يلزم أن كل سياق يحتاج إلى تفسير، وأن كل حقيقة تحتاج إلى تقسيم.

وهذا التشقيق والتقرير في الغالب هو نوع تميل إليه كثير من النفوس، ولا سيما النفوس التي تكون متربصة بمسائل العلم -إن صح التعبير- أي: داخلة في مسائل العلم دون أن تكون محصلة لفقهه على الوجه الصحيح، فتجد أنهم يعنون بهذه التقسيمات، وهذه التشقيقات والاصطلاحات والتفريعات، وفي الغالب أن مثل هذه الطرق التي كثرت في كلام بعض المتأخرين لا تحصل فقهاً كثيراً.

فتجد بعضهم مثلاً يقول: إن هذا الشيء ينقسم إلى ثلاثة أوجه، ثم يذكرها، ويظن أن الإحاطة بمثل هذه الأوجه الثلاثة في مسألة معينة هو من التحقيق العلمي، مع أن هذا الأمر الذي يدور حوله، وربما علمه وتعلمه، وكرره، وعده من نفائس العلم وما إلى ذلك، يعد في الأصل من البدهيات، ولو نظرنا من هو الذي تكلم بهذا التقسيم من العلماء المتقدمين لوجدنا أن فلاناً من أهل العلم ربما ذكره على نوع من الذكر العادي، ولم يقصد به الإبراز والإثارة المطلقة لهذا الكلام.

فلابد من العناية بالفقه على الطريقة التي جاء ذكرها في القرآن في تقرير الشريعة، في أصولها أو فروعها، أو جاء في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريقة مخاطبته لأصحابه، وفي طريقة تعليمه، وفي طريقة قضائه، وفي طريقة أمره ونهيه، هذه الطريقة العلمية القرآنية النبوية التي درج عليها الصحابة هي الطريقة الفاضلة.

وعندما تأخر عصر الأمة، وضعف اللسان، ودخلت الرواية بعض التردد عند بعض الرواة لها، وما إلى ذلك؛ طرأت هذه الإشكالات بلا شك، لكن لا ينبغي أن يبالغ في ترسيم هذه الإشكالات أكثر من اللازم، فإن اللسان العربي لم يفسد، والناس لا يزالون عرباً، لكن ذهبت فصاحتهم، ولذلك فإن العربي الذي ولد عربياً ونشأ عربياً، إذا قرأ القرآن فإنه يفهم جمهور ما في خطاب القرآن، فيفهم معنى (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ويفهم معنى أن الله يأمر بالعدل، ويفهم قصة موسى من أولها إلى آخرها، ويفهم معنى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:١٤٣] ويفهم (وكلمه ربه)، فلا يزال اللسان العربي قائماً.

لكن هناك بعض الحقائق العلمية الخاصة التي تحتاج إلى إنسان فصيح.

فلا ينبغي أن يبالغ في تكريس علوم الآلة تكريساً استطرادياً مطولاً لا يحصل في النتيجة فقهاً عادلاً، ولذلك فإن كل من استطاع أن يختصر المسافة بين فهم المخاطبين وبين النص بطريقة علمية عادلة وصادقة، بحيث يكون فهمهم للنص أكثر بياناً وأكثر وضوحاً، فهذا نوع من الفقه ونوع من التجديد الشرعي، بخلاف من يضع سلسلة متسلسلة معقدة للوصول إلى الحقيقة التي نطق بها النص، مع أن الإشكال والتعقيد إنما هو في الفهم وليس في النص نفسه، وهو أيضاً في إدراك هذه السلسلة المطولة.

ولعل من الأمثلة على ذلك: حال المتكلمين، فإنهم إذا أرادوا أن يقرروا دليل الربوبية -أن الرب واحد- قالوا: وهو المذكور في قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:٩١] الآية، ثم يقولون: وهذا دليل التمانع، ويذكرون معناه، وأنه مبني على مقدمتين:

ثم يأتون بسلسلة عقلية في تقرير دليل التمانع، وفي الأخير يقولون: دليل التمانع هو المذكور في قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:٩١].

ومن المعلوم أن فهم العامة لدليل التمانع على الصورة الكلامية يكون فهماً صعباً، وليس هذا فحسب؛ بل يقولون بعد ذلك: ولكن هذا الدليل عليه سؤالات، فإنه مبني على تعارض الإرادتين، فلو فرض جدلاً أن ثمة اتفاقاً في الإرادتين

ثم يقولون: وهذا يجاب عنه بكذا ... إلخ، فتجد أنهم -إن صح التعبير بالعبارة الدارجة- قد عقدوا القضية، مع أنه من يقرأ من المسلمين -وإن لم يكن عربياً، ويترجم له المعنى- قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:٩١] يفهم أن هذا تقرير بين واضح لمسألة الربوبية، دون أن يحتاج إلى ذلك التعقيد؛ ولذلك حينما سمع جبير بن مطعم قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الطور:٣٥ - ٣٦]-كما في البخاري - تحركت نفسه إلى التصديق عندما سمع هذا الكلام.

فالمقصود: أن تقريب الفهم إلى النصوص منهج حسن، بشرط أن يكون على وجه من العدل، لا أن تسقط العلوم التي اشتغل بها العلماء، فإن بعض الناس يريد أن يفهم النصوص والحقائق دون أن يرجع للقواعد وأصول الفقه وما إلى ذلك، فإن هذا ليس منهجاً عدلاً، وليس هو المقصود، لكن المقصود أيضاً ألا يبالغ في هذه القضايا.

<<  <  ج: ص:  >  >>