[شبهة أن الاشتراك في الأسماء يوجب تماثل المسميات والرد عليها]
قال المصنف رحمه الله: [وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود، ولا يلزم من اتفاقهما بمسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا؛ بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمي ذلك الاسم عند الإضافة والتقييد والتخصيص، ولا في غيره، فلا يقول عاقل -إذا قيل: إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود-: إن هذا مثل هذا لاتفاقها في مسمى الشيء والوجود؛ لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه؛ بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل: هذا موجود وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما].
بعد أن ذكر المصنف رحمه الله المذهب الشرعي الصحيح الذي عليه جمهور المسلمين وأتباع المرسلين، ثم ذكر بعد ذلك المنحرفين عن سبيلهم، أراد هنا أن يبين جوهر الإشكال عند هذه الطوائف في نفيهم للصفات؛ فذكر أن هناك قاعدة يزعمون أنها قاعدة عقلية، وهي: أن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل في الحقيقة أو الاشتراك والتشبيه عند الإضافة والتخصيص.
وبيان ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قد سمى نفسه في القرآن الكريم: العزيز، وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:٥١] ووصف نفسه بأنه سميع بصير فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:٥٨] ووصف الإنسان بأنه سميع بصير فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:٢] وقال عن نفسه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [البينة:٨] وقال عن عباده المؤمنين: {وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:٨] وسمى نفسه بالملك فقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} [الحشر:٢٣] وسمى بعض عباده بالملك فقال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:٥٤]
فهنا اشتراك في هذه الأسماء والأوصاف بين الخالق وبين المخلوق، فزعم هؤلاء أن هذا الاشتراك في اسم العزيز والسميع والبصير ونحوها بين الخالق والمخلوق، أنه هو التشبيه الذي نفته النصوص في مثل قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] ومن هنا قالت المعتزلة وغيرها من المتكلمين بلزوم تأويل هذا الإثبات، حتى نحافظ على التنزيه المذكور في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] ومن هنا قال ابن سينا: إن هذا التشبيه للعامة دون الخاصة ..
وغير ذلك.
فالمصنف رحمه الله يريد هنا أن ينتهي إلى حكم عقلي ضروري، هذا الحكم هو: أن الاشتراك في الاسم المطلق -أي: غير المضاف- بين الخالق والمخلوق، لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص، أي: عند إضافة هذا الاسم إلى الله، أو إضافته إلى المخلوق، كأن يقال: علم الله، وعلم المخلوق ..
ونحو ذلك.
إذاً: هم زعموا أن الاشتراك في الاسم المطلق -أي: المجرد عن الإضافة والتخصيص- يستلزم التشبيه والتمثيل بعد الإضافة والتخصيص، فلم يفرقوا بين حكم الاسم المطلق، وبين حكم الاسم المختص المضاف.
أما المصنف رحمه الله فإنه يقول: إن العقل -فضلاً عن الشرع- يفرق بين الاسم المطلق وبين الاسم المضاف، ويقول: إن الذي ينزه الباري عنه هو أن يقع بينه وبين شيء من خلقه اشتراك بما يختص به سبحانه أو يجب له.
وأما أن ثمة اشتراكاً في الاسم المطلق، فهذا ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص كقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١].
ومن الأدلة على ذلك: أن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى ببعض هذه الأسماء بعض المخلوقين من عباده، ووصف نفسه بصفات، ووصف ببعض هذه الصفات بعض المخلوقات، وهذا الاشتراك الذي حصل هو اشتراك في الاسم المطلق، وليس في الإضافة والتخصيص، فلا يلزم من ذلك التماثل أو التشابه بين الخالق والمخلوق.