[أهمية اعتبار السياق في فهم النصوص]
قال المصنف رحمه الله: [فالأول: كما قالوا في قوله: (عبدي جعت فلم تطعمني ...)، وفي الأثر الآخر: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه)، وقوله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)، فقالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق.
فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق].
إن من أسباب التوهم الذي عرض لهؤلاء، مع ما دخل عليهم من علم الكلام ومادته، إلا أن من أسباب التوهم الإشكالي الذي طرأ على هؤلاء: أنهم لم يفقهوا القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار السياق، وإنما يأخذون حرفاً أو كلمة ويبنون عليها، وهذا الأمر -وهو عدم فقه الشريعة وأصولها باعتبار السياق- إذا دخل على أحد في مسائل أصول الدين؛ خرج من السنة إلى البدعة، ومن فاته الفقه للسياق في باب الفقه وفروع الشريعة؛ خرج من الأقوال المحكمة إلى الأقوال المتشابهة الشاذة، مع أنه ربما يظن أن هذا هو عين المتمسك بصريح النص، أو بالحقائق الظاهرة.
إذاً: فلابد من اعتبار السياق في فهم النصوص؛ لأن فقه الأئمة رحمهم الله -حتى في فروع الشريعة- هو فقه سياق، بمعنى: أنهم يعتبرون قواعد هذا الباب، وأصوله، وغير ذلك، ولذلك لا بد لطالب العلم المقتدي بهدي الأئمة وهدي الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يكون متبعاً لهذا الفقه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فاعتبار السياق مهم جداً.
ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم قسماً، فأعطى رجالاً ولم يعطِ رجلاً، فقال سعد: (يا رسول الله! أعطِ فلاناً فإنه مؤمن.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو مسلم، قال سعد: أقولها ثلاثاً ويكررها علي ثلاثاً: هو مسلم، ثم قال: إني لا أعطي الرجل ...) الحديث.
وما جاء في حديث معاوية بن الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ائتني بها، فجاءه بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: اعتقها فإنها مؤمنة).
وهنا سؤال: لماذا منع النبي صلى الله عليه وسلم سعداً أن يسمي ذلك الرجل مؤمناً، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عن جارية معاوية بن الحكم: إنها مؤمنة، لما أجابته بأن الله في السماء وأنه رسول الله؟ والرجل في حديث سعد يعلم بالقطع أن سعداً ما زكاه وما مدحه إلا لكون ذلك من البدهيات؛ وذلك لأنه يقر بأن الله في السماء، وأن محمداً رسول الله، فالحقيقة التي مع الجارية يعلم أنها معه؛ بل إن معه أكثر من ذلك.
ولكن الفرق هو من جهة اعتبار السياق.
كذلك المنافقون، فإنه قد يقال: إن القرآن جعل المنافقين من جملة المسلمين، وقد يقال أيضاً: إن القرآن لم يجعل المنافقين من جملة المسلمين، أي: من جهة الاسم، وإلا فإن المنافق من حيث الباطن كافر.
والقائل بأن المنافقين في القرآن ليسوا من جملة المسلمين قد يستدل على ذلك بقول الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:٥٦] والله تعالى يقول في موضع آخر من كتابه: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} [الأحزاب:١٨] والمعوقون هنا هم المنافقون، ومع ذلك قال الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} [الأحزاب:١٨] وهناك في آية التوبة يقول: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [الأحزاب:١٨] ولذلك يقول ابن تيمية: "إن القرآن إذا ذكر المنافقين في سياق ربما أدخلهم في الإسلام، وإذا ذكرهم في سياقٍ آخر ربما أخرجهم منه، ويكون الاعتبار بحال السياق، وبحال فقه السياق".
مثال آخر: مسألة التكفير، قد يقول قائل: إن فقه الحجة ليس لازماً, فإن الله تعالى كفّر الكفار وحكم عليهم بالنار، وقد قال الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:١٠] وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:١٧٩] فحكم الله بكفرهم، وذرأهم لجهنم، مع أنه وصفهم بأنهم لا يفقهون.
وقد يقول آخر: بل لا بد من فقه الحجة، ونحو ذلك من تسلسل المعاني، والدليل على ذلك أن الله لما كفر أصحاب فرعون قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:١٤] وقال تعالى عن أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦] مع أن الكلام في حقيقته ليس متناقضاً، بمعنى: أن القوم الذين قال الله فيهم: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:١٧٩] هؤلاء يدخل فيهم فرعون ومن معه الذين قال الله فيهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:١٤] فهل يثبت القرآن مرةً أنهم يعرفون، ومرة يثبت أنهم يجهلون، ومرة يثبت أنهم يعقلون، ومرةً يثبت أنهم لا يعقلون؟ الجواب: لا، ولكن هذا من تنوع مادة السياق.
ولذلك فإن الخوارج عندما قرءوا قول الله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:٢٢] وقوله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:١٩٢] ظلوا لأمرين:
أولاً: لأنهم لم يعتبروا سياق الآيات الأخرى، وهذا نقص فاتهم، فلم يقرءوا قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] وغيرها من الآيات الدالة على أن الله تعالى يغفر الذنوب لمن يشاء.
ثانياً: لأنهم لم يفقهوا سياق الآية، فلو قرءوا ما قبل الآية وما بعدها، وتأملوا في سياق الآية نفسها؛ لبان لهم أن هذا السياق في قومٍ كفار.
إذاً: لا بد من اعتبار فقه السياق، سواء في أصول الدين، أو في فروعه، ولذلك يقال: إن من فاته فقه السياق، فإذا كان في باب أصول الدين؛ فإنه يخرج من السنة إلى البدعة، كما فعلت الخوارج، فإنهم لم يفقهوا سياق القرآن؛ بل أخذوا بعض الكلمات من القرآن وبنوا عليها، وهذا من الضلال التي ضل فيه أهل الكتاب، الذين قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:٨٥] وربما كان هذا الكفر كفر جحود، وربما كان من باب التحريف، أو من باب الترك، أو من باب عدم الفقه، أو من غير ذلك.