[كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به]
قال المصنف رحمه الله: [وهذه الطريق غير قولنا: إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أولى، فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها].
هذه طريقة عقلية ثانية في إثبات الصفات، وهي: أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به، وهي محصلة من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:٦٠] وربما سماها بعض نظار السنة: قياس الأولى، وقد سبق أن هذه التسمية ليست محمودة، إلا في مقام المناظرة عند الحاجة إليها، أما من حيث الابتداء فلا ينبغي أن تسمى بذلك؛ بل تسمى بما سمى الله سبحانه وتعالى هذا الأمر به وهو: المثل الأعلى.
وهذه القاعدة فيها إشارة من الفقه، وهي أنه إذا قيل: إن كل كمال ثبت للمخلوق، فالمقصود هنا: الكمال المطلق، وإن كان المخلوق لا يتحقق فيه ما هو من الكمال المطلق، فإن النقص في هذا الكمال المطلق إنما دخل من حيث الإضافة، بمعنى: أنه لا يرد على هذا أن يقول قائل: إن وجود الولد كمال في المخلوق، والرجل الذي له ولد أكمل من العقيم عند الناس.
فلا يرد هذا الأمر؛ لأن هذا نقص؛ وذلك لأن صفة الولد فرع عن الحاجة، وكذلك الأكل والشرب، فإن عدمه يكون عن علة، فهي إذاً صفة نقص، وإنما المقصود: الكمال المطلق؛ كالكلام، والسمع، والبصر.
فإن قال قائل: فهل في المخلوق كمال مطلق؟ قيل: المقصود هو ليس ما في المخلوق، وإنما المقصود الصفة إذا كانت مجردة، فإن الكلام إذا ذكر مطلقاً مجرداً فهو كمال مطلق، بخلاف الولد، فإنه إذا ذكر مجرداً فإنه يكون نقصاً؛ بل الولد لا يمكن أن يكون إلا أمراً إضافياً، فإذا قيل: الابن؛ لزم من وجوده وجود الأب.
إذاً: لا ينبغي دخول هذا الإشكال على هذه القاعدة، وهي أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به.
قال رحمه الله: [وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعتراض مشهور لبسوا به على الناس، حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته ويضعف الإثبات به، مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الآمدي وأمثاله، مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجهمية].
الآمدي هو من متكلمة أصحاب الأشعري، وهو من كبار متأخريهم، وقوله: (وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة) مقصوده: الطريقة الأولى، وهي مسألة التقابل.
قال رحمه الله: [فقالوا: القول بأنه لو لم يكن متصفاً بهذه الصفات، كالسمع والبصر والكلام، مع كونه حياً لكان متصفاً بما يقابلها، فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة المتقابلين وبيان أقسامهما.
فنقول: أما المتقابلان فما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة، وهو إما أن لا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، أو يصح ذلك في أحد الطرفين].
قوله: (في الصدق ولا في الكذب): المقصود بالصدق: الإثبات، وبالكذب: النفي، أو يقال: الصدق هو الإيجاب, والكذب هو السلب, فكل هذه مترادفة.
قال رحمه الله: [فالأول: هما المتقابلان بالسلب والإيجاب، وهو تقابل التناقض، والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما، كقولنا: زيد حيوان، زيد ليس بحيوان، ومن خاصيته استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب، وأنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر؛ من جهة واحدة ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، إذ كون الموجود واجباً بنفسه بنفسه وممكناً بنفسه لا يجتمعان ولا يرتفعان].
مقصوده: أنه يمتنع ارتفاعهما ويمتنع اجتماعهما، فإنه إذا قيل: إن زيداً ليس بحيوان؛ لزم أن يكون ليس بحيوان.
وقوله: (وأنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة ...):
أي: أنه لا بد من ثبوت أحدهما، فأما أن يرفعا جميعاً فهو ممتنع، فإذا قيل: إن زيداً معدوم؛ لزم أن لا يكون موجوداً، وإذا قيل: زيدٌ حيوان؛ لزم أن يكون حيواناً، فإنه إذا ذكر الإثبات امتنع النفي، وإذا ذكر النفي امتنع الإثبات.