[ينفى عن الله تعالى ما ضاد صفات الكمال]
قال المصنف رحمه الله: [فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه نفسه ليس هو موجوداً بنفسه؛ بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه، فلا يوجد إلا به، وهو سبحانه وتعالى غني عن كل ما سواه، وكل ما نافى غناه فهو منزه عنه، وهو سبحانه وتعالى قدير قوي، فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه، وهو سبحانه حي قيوم، فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه].
هذه طرق شرعية وطرق عقلية، فيقال: إن الأكل والشرب ينفى عن الله لا لعدم مجيء السمع به؛ بل لكونه نقصاً؛ ولذلك فهو منافٍ لحياة الله وقيوميته، ومنافٍ لكونه الأول الذي ليس قبله شيء, وهذا أصل شرعي في نفي الصفات التي لا تليق بالله تعالى.
قال رحمه الله: [وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفء، فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك، كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه].
ولذلك لم تصرح النصوص بتفصيل النفي؛ لأنه إذا ثبت أحد المتقابلين لزم نفي الآخر.
قال رحمه الله: [فطرق العلم بما ينزه عنه الرب متسعة، لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم، كما فعله أهل القصور والتقصير، الذين تناقضوا في ذلك وفرقوا بين المتماثلين، حتى إن كل من أثبت شيئاً احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه].
لأن هذا يوجب الاضطراب والتناقض عندهم من جهة، ويوجب عدم التحقيق لمباني الإثبات والنفي من جهة أخرى، وإنما كان الأمر كذلك لأن هذا اللفظ (التشبيه والتجسيم) لفظ صار فيه إجمال واشتراك كثير، ولا سيما إذا حقق المتكلم من هذا الوجه المجرد مراده على طريقة غلط؛ كقولهم: إن الفرق بين هذا وهذا: أن هذا جاء به السمع، وهذا لم يأت به السمع، دون أن يفقهوا أن ما جاء به السمع فإنه يكون كمالاً، وما لم يأت به السمع فإنه يكون نقصاً، فإن تجويز النقص ولو لم يوصف به الباري -أي: فرض قبول إمكان الرب له- هو بحد ذاته نقص، فإن من قال مثلاً: إن الله لا يوصف بالأكل والشرب؛ لأنه لم يصف نفسه بذلك، وإن كان قابلاً أو يجوز عليه هذا الأمر؛ فإن هذا قد أتى باباً من أبواب التشبيه والنقص.
قال رحمه الله: [وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور، حتى نفوا النفي، فقالوا: لا يقال: موجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي؛ لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم، فلزمهم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعاً، ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات والممتنعات والجمادات أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا].
وهذا سبق بيانه، ولا حاجة إلى التعليق عليه هنا.
وقوله: (فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا):
كأن هذه الجملة تفسر ما أراده المصنف بهذه الطريقة التي استعملها فيما سبق من كلامه، لما واجه مصطلح التشبيه من هذا الوجه، ولكن يقال: إن مسألة التشبيه نطق بها أهل العلم، وكذلك المصنف نفسه في كتبه ورسائله، فقد نطقوا بأن الله منزه عن التشبيه، وهذه مسألة لا يجادل فيها أحد من حيث هي، لكن حينما تكون هي المبنى في الإثبات والنفي، ويقصر الإثبات والنفي على هذا المبنى وحده، ويفسر تفسيراً غلطاً، ثم يلتزم له بلوازم خاطئة، فيجعل الفرق بين الكمال والنقص: أن هذا نطق به السمع، وهذا لم ينطق به السمع؛ فهذا لا شك أنه هو المقصود عند المصنف في إبطاله لهذه المادة من هذا الوجه.
ومعلوم أن الإبطال لطريقة الاعتماد على نفي التشبيه في الإثبات من وجه لا يلزم أن يكون إبطالاً لها من كل وجه، ولذلك إذا قيل: إن المصنف منع استعمالها هنا، فأيضاً نقول: إنه من المعلوم أن المصنف استعملها في مقام آخر، لكن ثمة فرق بين الوجه الذي منعه، والوجه الذي استعمله، وذلك عندما استعمل مادة التشبيه في مسائل التشبيه، أو في مسائل التقرير، أو في مسائل الرد.
فهو يقرر أن ما أثبت لله سبحانه وتعالى يكون مثبتاً له مع تنزيهه عن التشبيه، أو أنه ينفي بعض التفسيرات لكونها وجهاً من التشبيه، وهو يجعل كل ما يثبت لله سبحانه وتعالى من باب الإثبات الذي لا يقارنه وجه من التشبيه والنقص، كما يجعل كل ما نفي عن الله سبحانه وتعالى فهو وجه من التشبيه والنقص.