للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القدر المشترك لا يستلزم التشبيه والتمثيل]

قال المصنف رحمه الله: [وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود، أو الحياة أو الحي، أو العلم أو العليم، أو السمع والبصر، أو السميع والبصير، أو القدرة أو القدير].

القدر المشترك: هو الاسم المطلق، والمسمى الكلي الذهني, وهذا من باب تحصيل المناظرات، وإلا فإنك لو ابتدأت الكلام لم تحتج إلى تقرير هذا المعتقد، وقد نبهت عليه فيما سبق، ومما يؤكد هذا: أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يستعمل هذه الطريقة في باب تقرير المعتقد لآحاد المسلمين، وإنما في بيان الحقائق العلمية، حتى لا يعترض المخالف على الحقائق الشرعية بحجج يظنها إما شرعية وإما عقلية؛ بل يقول: إن ما يتكلمون به من الحجج فإنها حجج مجملة.

ومن القواعد التي يستعملها المصنف أنه يقول: إن المخالفين لأهل السنة والجماعة إما أن يتكلموا بحجة باطلة في نفس الأمر، أي: باطلة من أصلها, وإما أن يتكلموا بحجة صحيحة، فما كان من الحجج صحيحاً فإنه غير مفصل فيما عينوه من المعاني؛ بل يكون حجة مجملة قد دلّت على نفي معنى ليس هو المعنى الذي يعينونه بالنفي؛ كاستدلالهم بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] فهذه حجة صحيحة، لكنها تدل على معنى قد أجمع المسلمون على نفيه، وأما أن هذه الحجة تدل على أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالصفات، أو لا تقوم به الصفات، فإن هذا استدلال غلط، وموجب الغلط: أن هذه الحجة فيها إجمال، فإن قدراً من معناها يعلم بالضرورة عند سائر المسلمين الإحاطة به في تقرير كمال الرب سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله: [والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه].

أي: أنه لم يقع اشتراك حتى يقال بنفيه، أو يقال: إن من أثبته يكون مجسماً مشبهاً، فإن هذا القول إنما يكون فرعاً عن الأمور الإضافية، فلما لم يقع اختصاص وإضافة؛ امتنع أن يقال: إن هذا يجب نفيه، بمعنى أن من أثبته كان مجسماً، فإن التشبيه بمعين آخر لا يقع إلا في مقام الإضافة والتخصيص، وليس في مقام الإطلاق، فليس هناك تعيين لواحد بصفة يكون الآخر مماثلاً له فيها، أو ما إلى ذلك.

قال رحمه الله: [فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال؛ كالوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، ولم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق؛ لم يكن في إثبات هذا محذور أصلاً؛ بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود].

قوله: (لم يكن في إثبات هذا محذورٌ أصلاً):

فإن من يسمي هذا تشبيهاً، فإن هذه حجة داحضة؛ لأنه لا يمكن أن ترفع الحقائق الشرعية العقلية باسم مشترك؛ بل للمنازع أن ينازع فيقول: إن لفظ التشبيه -وهذا من باب التسلسل في المناظرات- لم يرد ذكر نفيه في الكتاب ولا في السنة.

فإن قيل: إن المسلمين درجوا على أن الله منزه عن مشابهة خلقه.

قيل: ما درج عليه المسلمون هو قدر مما يقوم في عقولهم وفطرهم ومحكم الشرائع، فإذا تكلم به المسلمون على هذا الوجه فقد صدقوا في كلامهم، وهو أن الله منزه عن مشابهة خلقه.

إذاً: فأهل العلم بل وعامة المسلمين درجوا على أنه يقال: إن الله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة خلقه, فإذا ما حكيت هذه الجملة على قدر من الحقائق البينة المنضبطة عند عامة أهل الإسلام من أهل السنة أو غيرهم، فإن هذا الإطلاق على مثل هذا المورد من السياق وعلى مثل هذا المورد من المعنى يكون مناسباً، لكن إذا تكلم قوم بالتأويل، وبقدر من الاصطلاح، فإنهم ينازعون ويناظرون بحسب ما يسلمون به من تعدد مادة الاصطلاح.

<<  <  ج: ص:  >  >>