[أدلة تنزيه الله تعالى عن المثلية]
وتنزيه الباري سبحانه عن المثلية معلوم بالسمع، والعقل، والفطرة:
أما الدليل السمعي: فإنه يراد به الكتاب والسنة.
وأما الدليل العقلي فإنه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون معتبراً بالمجردات العقلية.
القسم الثاني: أن يكون مركباً من القياس على المشاهدات الحسية، فإذا كان مركباً من القياس على المشاهدات الحسية فقد سماه البعض دليلاً حسياً، والصحيح أنه دليل عقلي، أي: حكم من العقل معتبر بحكم المشاهدات والحسيات.
وأما إذا كان الدليل العقلي مبنياً على المجردات العقلية -وهو القسم الأول- فإن هذه المجردات العقلية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون من كليات العقل الضرورية، وهذا هو الدليل العقلي الضروري القطعي.
القسم الثاني: أن تكون هذه المجردات العقلية -أي: غير الحسية- من قياسات العقل ونظره، وهذا هو الدليل العقلي الظني النظري.
وعليه: فقد يكون الدليل العقلي قطعياً إذا اعتبر بالكليات واليقينيات، وقد يكون ظنياً إذا اعتبر بقياسات محتملة.
وهنا سؤال وهو من مسائل النزاع في مقدمات الأدلة عند النظار: هل الدليل العقلي القطعي هو المعتبر بالكليات العقلية المجردة، أم أنه قد يكون قطعياً وهو معتبر بالحسيات؟
والجواب: يقول كثير من النظار: إنه لا يكون معتبراً عقلياً قطعياً إلا إذا كان معتبراً بالكليات العقلية القطعية المجردة، وهذا غير صحيح؛ بل يكون عقلياً قطعياً إذا اعتبر بالحسيات المطردة، فإن الحس إذا كان مطرداً أخذ حكم القطع، ودل على مناسب له من الحكم.
وعليه: فيكون الدليل العقلي له أربعة أوجه:
الأول: أن يكون قطعياً مبنياً على المجردات العقلية، وهي الكليات العقلية في الذهن.
الثاني: أن يكون عقلياً ظنياً مبنياً على المجردات العقلية.
الثالث: أن يكون حسياً قطعياً مبنياً على الاطراد الحسي.
الرابع: أن يكون عقلياً ظنياً مبنياً على المحتملات الحسية القياسية.
الفرق بين الدليل العقلي والدليل الفطري:
والفرق بينهما: أن الدليل العقلي: هو الدليل الاعتباري المبني على الاعتبار والنظر، سواءً اعتمد على مقدمات قطعية، أو مقدمات ظنية.
أما الدليل الفطري: فهو ابتداء من الله سبحانه وتعالى في نفوس العباد، أي: أن الله تعلى كما خلق العباد على صورة من الشكل الجسماني الجسدي المعروف، فكذلك خلق الإنسان وهو مبتدأ بهذه الحكمة الأولى وهي الفطرة، فهي مما استودعه الله في الإنسان عند ابتداء خلقه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين: (كل مولود يولد على الفطرة)، مع أن المولود عند ولادته لا يكون متمتعاً بمسألة القياس والنظر والعقليات، ولا يفقه شيئاً.
إذاً: الدليل الفطري: هو ما استودعه الله من الحكمة الأولى في نفوس بني آدم، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، وهي المذكورة في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:١٧٢] وأيضاً مثالها بيِّن من جهة الفقه لها، فكما خلق الله الإنسان ناطقاً متكلماً، خلقه كذلك فاقهاً لهذه الحكمة الأولى، أي: مؤمناً ومقراً بها؛ ولكنه إقرار وإيمان مجمل لا بد له من تفصيل، وهذا التفصيل هو الذي يقع في كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولذلك قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:٥٢]
وإذا ثبت أن كل مولود يولد على الفطرة، فإن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو أولى الناس بهذه الفطرة فضلاً عما له من الامتياز في غير مقام الفطرة وما هو زائد عليها.
إذا ثبت ذلك فكيف قال الله تعالى في كتابه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:٥٢].
والجواب: أن المقصود بالإيمان هنا هو تفصيله وليس أصله.
وهذه الفطرة قد ينحرف الإنسان عنها بما يزينه له الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عياض بن حمار: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)، فالله تعالى خلق الناس وهم مقرون بالحنيفية وهي التوحيد، وهذا هو معنى دليل الفطرة.