[مناقشة من يثبت الصفات السبع دون غيرها]
قال المصنف رحمه الله: [فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله حيٌ بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، ويجعل ذلك مجازاً، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته؛ بل القول في أحدها كالقول في الآخر].
من هو القائل بهذا المذهب؟
إذا قلنا: إن الأشعرية يقولون: إن الله سبحانه وتعالى حي بحياة، متكلم بكلام
إلخ، فهذا لا إشكال فيه، فإنه معروف عن المتقدمين منهم وكذلك عن المتأخرين، وأما إذا فُهم من هذا السياق أنهم يثبتون الصفات السبع، فإن الصحيح أن مذهب الأشاعرة فيه تفصيل، فالصفات السبع التي هي: الحياة، والكلام، والسمع، والبصر، والإرادة، والعلم، والقدرة، هذه أجمعت عليها الأشعرية، أتباع أبي الحسن الأشعري، وأما أن الأشعرية لا يثبتون إلا هذه الصفات السبع، فمن حكى في مذهبهم أنهم يقتصرون على هذه السبع وحدها فقد أخطأ عليهم؛ بل إن متقدميهم وأخصهم أبو الحسن الأشعري إمام المذهب، ومتقدمو أصحابه؛ كـ القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني، وابن فورك، وجماعة سواهم، هؤلاء يثبتون ما يسمى بالصفات الخبرية؛ كالوجه، واليدين، ونحوها، وبعض متوسطيهم يثبتون بعض الصفات غير هذه السبع، وإنما الذين غلب عليهم الاقتصار على هذه السبع هم طبقة أبي المعالي الجويني ومن سار على نسجه، أي: من نسج على طريقة الجويني بعده من المتأخرين.
والإحاطة بتفصيل مقالة الأشعرية في الصفات مسألة مطولة، ولكن النتيجة العامة: أن الأشعرية منتسبون للسنة والجماعة، معظمون لمتقدم الأئمة، ليسوا من جنس المعتزلة ونحوها من الذين لا ينتحلون مذهب السنة والجماعة، فهم -أي: الأشاعرة- أقرب طوائف المتكلمين إلى أهل السنة والجماعة، كما يعبر بذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله، وإمام المذهب - أبو الحسن الأشعري - حاله بعد رجوعه عن الاعتزال متسلسل من المفضول إلى الفاضل، فإنه أول ما رجع عن الاعتزال انتسب لأهل السنة والجماعة، لكنه لم يكن بصيراً بمفصل مذهبهم، وكان علمه بعلم الكلام علماً مفصلاً، فصار يأخذ من مقالاتهم المجملة ويحاول أن يفصلها، فربما فصلها تفصيلاً كلامياً، فانحرف بها عن مقصودهم، ثم حسنت حاله في آخر أمره لما صنف كتاب الإبانة، فكتاب الإبانة إن كان عليه بعض المآخذ، إلا أنه في الجملة كتاب مقارب للسنة، وإن كان غير محقق على السنة والجماعة، لكنه مقارب للسنة والجماعة، وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله ما نصه: "وأما من قال منهم -يعني: الأشعرية- بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك -وهذا قيد مهم، وهو قوله: ولم يظهر مقالة تناقض ذلك- فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة"، وإنما كان الانتساب إلى الأشعري بدعة ليس لأجل الأشعري بذاته؛ بل لأنه في أصول الديانة لا ينبغي أن ينتسب إلى معين على وجه الاختصاص به، فإن قال قائل: فقد انتسب من انتسب إلى الإمام أحمد، وقالوا: إنه إمام السنة، قيل: أن يقال عن الإمام أحمد أو عن الشافعي أو عن أبي حنيفة أو مالك أو غيرهم: إنه من إئمة السنة، أو إمام أهل السنة، هذا وجه، وأما أن يقال: إن الحق في قول أحمد، وكأنه اختص به، فهذا هو البدعة.
ولذلك لما ناظر ابن تيمية بعض المتكلمين والقضاة في العقيدة الواسطية والحموية وغيرها، قال له بعض قضاة المالكية والشافعية: قل: إن هذا معتقد الإمام أحمد بن حنبل، فقال: لا، هذا المعتقد معروف قبل أن يولد الإمام أحمد بن حنبل.
فلا يضاف إلى رجل معين، وحتى لو كان صاحب سنة فلا ينسب إليه بخصوصه، وكأن غيره من أهل السنة أو من الأئمة ليس الحق معهم، إنما الانتساب للمعين يكون في أمور الاجتهاد؛ لأنه لا غرو أن يقال: إن فلاناً حنبلي أو شافعي في الفقه؛ وذلك لأن الشافعي مجتهد في جمهور مسائل الفقه، فأنت قد انتسبت إليه فيما يختص به وهو اجتهاده، وأما العقائد والأصول الكبرى فليست من باب الاجتهاد، ولذلك مُنع أن ينتسب أو أن يتعصب لمعين فيها، فضلاً عن أن يكون هذا المعين عنده انحراف، أو غلط، أو عدم موافقه للسنة والجماعة.
قال المصنف رحمه الله: [فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضىً وغضب يليق به، وللمخلوق رضىً وغضب يليق به].
فالقاعدة واحدة، والتفريق تحكم، ومعلوم أن التحكم ممنوع في النظم العقلية، فلابد من جواب عقلي، وهذه مناظرة عقلية، فإذا قال المخالف: إنه يثبت الإرادة، قيل له: إن الله يقول: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:١٥٢] فأثبت للمخلوق إرادة، فلمَ لمْ يلزم أن تكون إرادة الرب كإرادة المخلوق؟ فإن قال: إن الله له إرادة تليق به، قيل: هذا صحيح، ولكن لمَ لا تقول: إن له رضى يليق به؟ فإن هذه الصفة في كتاب الله، قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:١١٩] فهذه آية من القرآن، وهذه آية من القرآن، وهذه صفة وهذه صفة، فالتفريق بينهما من باب التحكم.
قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق].
إذا قال المخالف: إن الغضب غليان دم القلب، وهذا لا يليق بالله تعالى.
قيل: هذا تعريف للغضب بمعناه المضاف المخصص للمخلوق، وإلا فلا يمكن أن يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى ذكر أن الحياة مخلوقة، كما في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:٢] فالحياة ذكرت مخلوقةً في القرآن، ونحن نقول: إن الله حي بحياة، فهل الحياة التي أضيفت إلى الله هي الحياة المخلوقة؟ الجواب: لا.
إذاً: هذا التعريف للغضب هو في حق المخلوقات، وليس من باب ما يلزم في حق الخالق، تعالى الله عن ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [وكذلك يُلزم بالقول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفى عن الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك ما هو من خصائص المخلوقين؛ فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه.
قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة].
أي: إن قال: إنه لا يوجد للمحبة والرضا إلا صورة أو معنىً واحد، وهو المعنى اللائق بالمخلوق.
قيل: فيلزمك أن تقول: إنه لا يوجد للسمع والبصر إلا معنىً واحد، فلمَ صح في عقلك أن يكون للسمع والبصر ونحوها أكثر من مراد بحسب الإضافة والتخصيص، ولم يصح ذلك في حكم المحبة والرضا ونحوها؟!
قال رحمه الله: [فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي: ليس له إرادة ولا كلام قائم به؛ لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات.
فهكذا يقول له المثبون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك].
قوله: (فإنه يبين) أي: هذا المتكلم من الصفاتية المنتسب للسنة والجماعة، ولكنه لم يحقق أصولهم من أصحاب الأشعري، يقول المصنف: إنه إذا ناظر الأشعريُ من هو من المعتزلة، وقال المعتزلي: إنه ليس لله إرادة ولا كلام
إلخ، قال له هذا المتكلم من الصفاتية: إن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات.
وهذا الجواب من هذا الصفاتي المتكلم جواب صحيح، لكنه يجب أن يطرد في بقية الصفات، فإن الحق لابد أن يكون مطرداً.
وقوله: (فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك):
أي: ما كان جوابه للمعتزلي، فهو جواب أهل السنة له.