للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[معنى التشابه الخاص وبيان أنه أمر نسبي]

قال المصنف رحمه الله: [بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص، فالتشابه الخاص: هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله وليس كذلك، والإحكام: هو الفصل بينهما، بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر.

وهذا التشابه إنما يكون بقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما.

ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله، وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه].

يبين المصنف رحمه الله أنه قد يرد على بعض الأذهان بعض المقامات التي لا تكون صحيحة من جهة العقل أو من جهة الشرع، وذلك أن الإحكام صفة مدح، والتشابه الذي ذكر في القرآن ليس منافياً لكمال القرآن، وهذا يعتبر من الضرورات العقلية الشرعية، فإنه إذا وصف به كتاب الله أو بعض آياته فيمتنع أن يكون -سواء كان تشابهاً عاماً أو تشابهاً خاصاً- مادةً من النقص؛ لأن القرآن منزه عن هذا، فلما وصف القرآن بأن منه آيات محكمات ومنه ما هو متشابه؛ علم أن هذا وهذا من الكمال.

وعليه: فالتشابه الخاص -كما أشار المصنف، وهذه قاعدة عقلية في كل الأشياء المختصة، بخلاف الأشياء العامة المطردة- هو تشابه نسبي، وكل ما كان خاصاً فإنه يكون نسبياً، وهذا من معنى خصوصه، فإن التشابه هنا إذا ما فسر بقدر من الحقائق المفارقة التي اختص الله بعلمها؛ كان هذا أيضاً من التشابه الخاص، وإن كان عاماً في الخلق، إلا أنه لا يستلزم الجهل بالمعاني، ولهذا فإن تشابهت حقائقها، بمعنى: أن الله اختص بعلمها، فإن معانيها تكون معلومةً.

وقد يكون التشابه راجعاً إلى حال الناظرين في آيات القرآن، ولا يلزم أن تكون الآية في نفس الأمر كذلك، ومن هنا قال بعض العلماء -كالمصنف-: إن من وقف من السلف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:٧] كان وقفه صحيحاً، ومن وقف منهم على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:٧] كان وقفه صحيحاً، ولكن هذا يفسر بمقام وهذا يفسر بمقام آخر.

إذاً: التشابه الخاص: هو قدر من الأمر النسبي، وهذا من معنى خصوصه، وقد يعرض لبعض الناظرين في آيات القرآن، وقد يفسر هذا التشابه بوجه من الحقائق الغيبية المفارقة.

وعليه: فإذا قيل: هل يوجد في القرآن آية متشابهة على هذا المعنى الخاص من التشابه باطراد، أي: أنها متشابهة في معناها وحقيقتها عند سائر المخاطبين بها؟

فالجواب: لا؛ لأنه لو اقتضى التشابه الخاص حكماً عاماً مطرداً؛ لكان هذا نقصاً، ولهذا فلا يوجد في القرآن آية متشابهة من كل وجه تشابهاً مطرداً عند سائر المخاطبين بالقرآن؛ لأنه إما أن يكون التشابه على معنى الحقائق المفارقة التي هي من غيب الله، وهذا ليس تشابهاً من كل وجه؛ بل هو تشابه في الماهية والكيفية، أي: أنها كيفية مجهولة، لكن المعنى الذي وردت الآية به -سواء كان في صفات الله، أو في مسائل المعاد ونحوها- يكون معلوماً.

فإذا اطرد التشابه من جهة المعنى امتنع أن يكون عاماً؛ بل يكون في وجه من مدلول السياق دون الوجه الآخر؛ لأنه لو كان مدلول السياق في سائر موارده مشتبهاً، أي: ليس بيناً وليس محكماً مفصلاً؛ لكان هذا النوع من سياق القرآن مما يقرأ ولا يفهم، وهذا مما ينفى عن القرآن.

وأما إذا قيل: إن بعض الآيات قد يكون شأنها كذلك، أي: أن بعض القارئين لها، أو الناظرين فيها، أو السامعين لها لا يفهمون معناها؛ فإن هذا موجود، لكنه لا يمكن أن يكون حالاً عامة لسائر المخاطبين والسامعين للقرآن؛ بل هو حال عارضة لبعضهم، وهذا العروض ليس سببه السياق, وإنما سببه حال السامع.

وعليه: فالتشابه الخاص هو نوع من عدم العلم التام المطرد، أي: أن الناظر قد يعرض له قدر من الوقف، فإذا كان الوقف في المعنى من كل وجه؛ امتنع هذا أن يكون حكماً مطرداً، وامتنع أن يكون سياقاً من القرآن كذلك، وإن عرض لبعض الناظرين فهذا من جهتهم.

وأما إذا كان من وجه خاص كالحقائق المفارقة، فإن هذا يكون حكماً عاماً للمخاطبين، ولكن السياق يكون سياقاً محكماً من وجه آخر، ولذلك فلو قال قائل مثلاً: إن الآيات التي ذكرت ما يتعلق باليوم الآخر محكمة بمعنى، وفسر الإحكام هنا بمعنى أنها معلومة المعاني، وقال آخر: إن هذا من المتشابه في القرآن، وقصد ما يتعلق بالحقائق في نفس الأمر، فيقال: إن كلام المعنيين صحيح.

وإن كان قد ينازع في تسمية هذه الآيات بالمتشابه؛ فإنه وإن أخبر الله تعالى أن من كتابه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، إلا أن إطلاق التسمية بالتشابه الخاص على جملة من آيات القرآن غلط بين ..

نعم، من القرآن ما هو متشابه، ولكن فرق بين الإطلاق، وبين أن يضاف التشابه الخاص إلى سياق خاص على وجه من التفسير المناسب.

وعليه: فمن قال: إن ما يتعلق بكيفية الصفات هو من المتشابه الذي اختص الله بعلمه والذي قال الله فيه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:٧] كان كلامه هذا كلاماً صحيحاً، بخلاف من قال: إن آيات الصفات هي المتشابهات وغيرها هي المحكمات، فإن هذا الإطلاق ليس إطلاقاً مناسباً ولا إطلاقاً سائغاً، وقد أطلقه جمهور المتكلمين، وكثير من الفقهاء، وأهل التفسير، ونسبوه إلى طائفة من المتقدمين، وهذا الإطلاق ليس حكمياً ولا مناسباً؛ فإن آيات الصفات وإن كانت متشابهة من جهة الحقائق، فإنها من جهة المعاني محكمة مفصلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>