للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ظهور الخوارج]

في آخر خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين ظهر الخوارج الذين حدَّث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأنهم، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من نحو عشرة أوجه، وجاء أيضاً في صحيح البخاري، فالحديث متفق عليه من غير وجه، وهو مخرج في الصحاح والسنن والمسانيد، وقد قال الإمام أحمد: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه".

وقد ظهروا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكان ابتداء إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بظهورهم لما جاءه ذهب من اليمن فقسمه عليه الصلاة والسلام بين أصحابه، فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل! فقام خالد بن الوليد -وفي رواية في الصحيح: فقام عمر بن الخطاب - وقال: دعني أضرب عنقه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لعله أن يكون يصلي، قال: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال عليه الصلاة والسلام: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم، ثم نظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ولى الرجل، فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر -أي: الرامي- إلى نصله فلا يجد فيه شيئاً، ثم ينظر إلى قذذه فلا يجد فيه شيئاً، قد سبق الفرث والدم).

وفيه إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بقتالهم ..

وما إلى ذلك.

وقد ظهر هؤلاء في خلافة علي بن أبي طالب وكفروا المسلمين بالكبائر؛ بل بما يرونه من الكبائر، فقد زعموا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتى كبيرة فكفروه بها، وكلا المقدمتين باطلة؛ فإن علياً لم يأت كبيرة، ثم لو فرض أنه أتى كبيرة من الكبائر فإن الكبيرة في الشريعة لا توجب كفر صاحبها.

ثم بعد ذلك حصل الاقتتال، وقاتلهم الصحابة بإمارة علي بن أبي طالب، وكان قتالهم -أعني: الخوارج- مشروعاً بالنص والإجماع، ليس لكفرهم، وإنما دفعاً لصولهم وعدوانهم على المسلمين بالدماء، فإنهم أهل سيف، وإلا فإن في أهل البدعة المخالفين للصحابة رضي الله تعالى عنهم من هو شر منهم من جهة البدع، ولكن الخوارج إنما شرع قتالهم وأجمع الصحابة على قتالهم لما عندهم من السيف والصول على المسلمين؛ فإن الذي عليه جمهور السلف- وهو ظاهر مذهب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما نص على ذلك الإمام ابن تيمية وانتصر له انتصاراً واسعاً في منهاج السنة وغيره- أن الخوارج الأول الذين خرجوا على علي بن أبي طالب ليسوا كفاراً، وإنما هم من أهل البدع والبغي، وقتالهم من باب دفع صولهم وليس من باب كفرهم، وهذا هو ظاهر سنة علي بن أبي طالب ومن معه من الصحابة، فإنهم ما جروا في قتالهم على سنة قتال الكفار، فإنه من المعلوم أن قتال الكفار يشتمل على السبي، والإجهاز، وما إلى ذلك من الأمور المعروفة في الجهاد مع الكفار، فالصحابة لم يستعملوا هذه السنن عندما قاتلوهم، فدل ذلك على أن علياً وغيره من الصحابة وإن أجمعوا على قتالهم إلا أنهم لا يرون كفرهم؛ ولكنهم من أهل البدع والعدوان والضلال، وقد ذمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر مروقهم من الدين، وما يتعلق بذلك من انحرافهم عن أصول الحق والسنة والجماعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>