الوجه الثالث: أن الذي لا يقبل الصفات أعظم نقصاً ممن يقبل الصفات ونقائضها
قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً: فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً ممن يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى، ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصاً من الحي الأعمى الأخرس].
هذا هو الوجه الثالث في الرد، وهو من باب التسليم الجدلي.
فيقول المصنف: لو سلمنا جدلاً بصحة الاصطلاح، وسلمنا جدلاً بصحة المعنى -أي: أن الموجودات قوابل وغير قوابل، أي: يمتنع عليها القبول- لو سلمنا بذلك، فأيهما أكمل في العقل: الأشياء القابلة أم غير القابلة؟ لا شك أن القوابل أكمل من غير القوابل، فيقول: أنتم فررتم من تشبيهه بشيء من مخلوقاته -على حد زعمكم- فشبهتموه بشيء من مخلوقاته أنقص منها، وقطعاً في حكم العقل أنها أنقص منها، وهي الأشياء غير القابلة للصفات، فإن غير القابل أنقص من القابل عقلاً.
وقد يقول قائل: هل معنى هذا أن أهل العلم ومن نظر في باب الصفات لا يستطيعون الانفكاك إما عن التشبيه بالقوابل أو بغير القوابل؟
والجواب: لا.
إنما هؤلاء عندما لم يحسنوا تفسير التشبيه الذي نفته النصوص، ونفاه العقل، ونفته الفطرة؛ وقعوا في هذه المضايق وهذه الإشكالات؛ لأنهم لم يفهموا معنى التشبيه الذي نفته النصوص، وظنوا أن التشبيه الذي نفته النصوص هو الاشتراك في الاسم المطلق، فذهبوا يهربون هذه المهارب, فوقعوا في نظير ما فروا منه؛ بل في شر منه، وإلا فلو فقهوا التشبيه الذي نفته النصوص لما لزم منه أن يكون الله سبحانه وتعالى مشابهاً لشيء؛ لا لما يسمونه قابلاً، ولا لما يسمونه غير قابل.
قال المصنف رحمه الله: [فإذا قيل: إن الباري عز وجل لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصم ونحو ذلك، مع أنه إذا جعل غير قابل لهما، كان تشبيهاً له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منهما، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات، فكيف ينكر من قال ذلك على غيره ما يزعم أنه تشبيه بالحي؟!].
مع أن التحقيق الشرعي والعقلي أن الله لا يوصف لا بهذا ولا بهذا، ولكن المصنف يقول: إن من نفيت عنه صفة وهو قابل لها، فهو أكمل في العقل ممن نفيت عنه صفة لكونها ممتنعة عليه.
وبعبارة أخرى: إذا نفيت صفة الكمال عن معين وهو قابل لها، فإن هذا أكمل مما إذا نفيت عن معين وهو غير قابل لها.
ثم يذكر المصنف أنهم يقولون: إن أئمة السنة قد شبهوا الله تعالى بالمخلوقات، فشبهوه ببني آدم ونحوهم الذين يتكلمون، ويسمعون، ويبصرون، ويعلمون ..
إلخ، وتقوم بهم هذه الصفات، فيقول المصنف: إذا كان هذا هو مفهوم التشبيه عندكم، فإن قولكم: إنه لا يتكلم، ولا يوصف بالسمع، ولا بالبصر، ولا بغير ذلك من الصفات، يعتبر تشبيهاً له بالجمادات، فلماذا كان ذلك التشبيه -بزعمكم- شناعةً على الأئمة، وهذا التشبيه الذي هو شر منه لم يكن شناعة عليكم؟
فإن قيل: فما المخرج؟ قيل: المخرج أن عندهم إشكالاً في تفسير التشبيه الذي نفته النصوص، فإنهم لم يفقهوه، وإلا فلو فقهوه لما لزم لا هذا ولا هذا، فإن الله منزه عن مشابهة سائر مخلوقاته.