[صفة المكر والكيد لله تعالى]
صفة المكر والكيد من الصفات المقيدة في القرآن، بمعنى: أنها إذا ذُكِرت فلابد أن تذكر على وفق سياق القرآن، ولا تذكر مطلقة؛ بل يقتدى بسياق القرآن، فما ذكره القرآن مطلقاً من الصفات؛ كالعلم، والحكمة، والسمع، والبصر، ونحوها، فإنها تذكر مطلقة، وما ذكره الله من صفاته مقيداً فإنه يذكر على وفق سياق القرآن، اتباعاً لكتاب الله في سياقه ومعانيه.
قال المصنف رحمه الله: [ووصف نفسه بالعمل فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:٧١] ووصف عبده بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧] وليس العمل كالعمل.
ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة في قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:٥٢] وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص:٦٢] وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف:٢٢] ووصف عبده بالمناداة والمناجاة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:٤] وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة:١٢] وقال: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة:٩] وليس المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة.
ووصف نفسه بالتكليم في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:١٦٤] وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣] وقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:٢٥٣] ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:٥٤] وليس التكليم كالتكليم.
ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة فقال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:٣] وليس الإنباء كالإنباء.
ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم فقال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:١ - ٤] وقال: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:٤] وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:١٦٤] وليس التعليم كالتعليم.
وهكذا وصف نفسه بالغضب في قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح:٦] ووصف عبده بالغضب في قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف:١٥٠] وليس الغضب كالغضب.
ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر في سبع آيات من كتابه أنه استوى على العرش، ووصف بعض الخلق بالاستواء على غيره -أي: على غير العرش- في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:١٣] وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون:٢٨] وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:٤٤] وليس الاستواء كالاستواء.
ووصف نفسه ببسط اليدين فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:٦٤] ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:٢٩] وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم، ونظائر هذا كثيرة].
قوله: (ونظائر هذا كثيرة):
أي: أنه ورد في مواضع كثيرة من القرآن أن الله سبحانه وتعالى سمى نفسه بأسماء، وجاء ذكر بعض هذه الأسماء في حق المخلوقين من بني آدم، ووصف نفسه بصفات، وجاء ذكر بعض هذه الصفات مضافة إليهم، وهذه الإضافة إلى المخلوقين تدل على نقص هذه الصفات في حقهم، كما أن الصفة إذا أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى دلت على أنها صفة كمال مطلق؛ لأن الصفة تبع لموصوفها، فإذا كان الموصوف كاملاً من كل وجه فإن الصفة لابد أن تكون صفة كمال مطلق، وهذه هي صفات الله سبحانه وتعالى.
وقد أراد المصنف رحمه الله هنا أن يبين الدليل المتواتر من القرآن الكريم على أن ثمة اشتراكاً في الاسم المطلق، ولم يلزم منه الاتفاق في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص، وقد بين المصنف رحمه الله بذلك جهتين:
الجهة الأولى: أن هذا الاشتراك ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص؛ لأن النصوص التي نفت التشبيه كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] لو كانت نفت هذا الاشتراك للزم أن في القرآن تناقضاً؛ إذ كيف ينفي الله شيئاً ثم يأتي مفصلاً بإثباته؟! فلما نفى الله سبحانه وتعالى التشبيه والتمثيل في كتابه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١].
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥] وغير ذلك، دل على أن ما ثبت في القرآن مفصلاً من الاشتراك في الاسم المطلق ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص.
الجهة الثانية: أن هذا دليل شرعي متواتر مطرد، قطعي الدلالة على أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يلزم منه التماثل في الحقيقة والتخصيص، ولهذا استعمل في القرآن الكريم.