للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[طريقة القرآن في الرد على المخالفين]

وقوله: [{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:١٥٨ - ١٦٠] إلى قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:١٨٠ - ١٨٢]].

هذه سياقات تامة ومحكمة، وهي آيات الله وكلماته سبحانه وتعالى، وفيها التحقيق لوحدانيته والدفع لسائر ما اعترض به المخالفون.

وهذه الآيات فيها عبرة من جهة تفصيلها ومن جهة كليتها، فالعبرة الكلية فيها أن يقال: إن طريقة القرآن في الرد على المخالفين للرسل عليهم الصلاة والسلام هي رد المختلف فيه إلى المجمع عليه؛ فإن الحقائق -وحتى الحقائق الشرعية- قد تكون متفقاً عليها، وقد يقع في شيء من المسائل الشرعية ما يكون مختلفاً فيه، والفقهاء إذا نظروا في مسائل الفقه -فضلاً عن مسائل الرد على المخالفين- فإنهم يردون المسألة التي فيها نزاع إلى الأصول المتفق عليها في بابها.

والحكم على المختلف يكون على ضوء القاعدة العقلية وهي: الحكم على المختلف بالمؤتلف، حتى لو خالف المخالف بالهوى، أو بالظن، أو بالإفك، وما إلى ذلك؛ فهؤلاء المشركون مع أنهم كذبوا، كما قال الله عنهم: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} [الصافات:١٥١] ومع ذلك أبطل الله سبحانه وتعالى ما يذكرونه من هذا الذي يزعمونه مختلفاً مشتبهاً، أبطله الله سبحانه وتعالى بما هو عندهم من المؤتلف، فإن المشركين من المؤتلف عندهم والمستقر عندهم أن الله بديع السماوات والأرض ..

وهكذا إذا ناظرت أحداً ولو لم يكن من المخالفين لأهل السنة والجماعة؛ بل حتى في المسائل الفقهية، فإذا اختلفتَ أنت وآخر، أو قرأت في مسألة فقهية؛ تجد أن هذه المسألة الفقهية لها أصول في بابها، فترد المسألة المتنازَع فيها إلى أصول هذا الباب، فتقول: أنا أتمسك بهذا الأصل في هذا الباب، إلا أن يأتي دليل يخرج المسألة عن هذا الأصل.

مثال ذلك: إذا اختلفتَ أنت وآخر في زكاة حلي النساء -ومن المعلوم أن بين الفقهاء خلافاً في هذه المسألة، وأن الأئمة الثلاثة لا يرون وجوب الزكاة فيها خلافاً لـ أبي حنيفة رحمه الله- فلك أن تقول: إن قاعدة الشريعة في باب الزكاة: (أن أموال القنية والارتفاق ليس فيها زكاة)، فالإنسان ليس عليه في لباسه، ولا في سيارته، ولا في مسكنه زكاة، حتى لو سكن الإنسان بيتاً بمليون ريال أو أكثر فليس عليه فيه زكاة.

وهذا الحلي الذي تستعمله النساء وتلبسه هو من قنيتها وارتفاقها، فمقتضى القاعدة في باب الزكاة أن مال القنية والارتفاق لا زكاة فيه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة).

فتقول أنتَ: أنا أتمسك بهذا الأصل، إلا أن يأتي دليل يدل على أن حلي النساء يُستثنى من هذا الأصل، فتكون قد رددت المختلف فيه بين العلماء إلى المؤتلِف.

فهذا منهج حسن في التفقه، وهو مستعمل في القرآن في تقرير الحقائق الشرعية، أو في الرد على المخالفين.

<<  <  ج: ص:  >  >>