للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[العلم بالمعنى لا يستلزم العلم بالكيفية]

قال المصنف رحمه الله: [فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار؛ علمنا معنى ذلك، وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب، وفسرنا ذلك, وأما نفس الحقيقة المخبر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة، فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله].

وهذا على المعنى الثالث للتأويل، فكما أننا نعلم المعاني المقولة في وعيد الله ووعده، ومع ذلك لا نعلم الكيفية التي تقع، فإن القول في باب الصفات من باب أولى أن يقال: إن معانيها معلومة، وهي صفات كمال لائقة بالله، وأما كيفياتها فإنها مجهولة وليست معلومة، والعلم بالمعنى لا يستلزم العلم بالكيفية، فإنا نعلم ما في وعد الله ووعيده من المعنى، ولا نعلم الكيفية، فهذا في حق المخلوقات، فهو في حق الخالق وصفاته من باب أولى.

قال رحمه الله: [ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان.

فبين أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة].

وهذا القول -أي: قول مالك - مروي عن غير واحد من السلف، وهو يصح أن يقال في سائر مسائل الصفات، وقوله: (الاستواء معلوم) أي: معلوم المعنى، فإن معنى (استوى) في كلام العرب معلوم، والاستواء معلوم في القرآن، وإذا قيل: إنه معلوم في القرآن، فإن معنى ذلك أنه معلوم في كلام العرب؛ لأن هناك تلازماً، فإن القرآن نزل بلسان العرب، ولا يمكن أن يخبر الله عز وجل عن نفسه في القرآن بشيء إلا ويكون معلوماً؛ لأن الله أمر بتدبر القرآن.

وقوله: (والكيف مجهول) أي: أن العلم به علم ممتنع؛ لأنه لا يحيط أحد بالله سبحانه وتعالى علماً.

وقوله: (والإيمان به واجب) أي: بالاستواء ومعناه، وقوله: (والسؤال عنه بدعة) أي: عن كيفية الاستواء؛ لأنه يدخل في قول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦] فلا ينبغي لأحد أن يسأل عما ليس له به علم.

قال المصنف رحمه الله: [ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، ولا يعلم ما هو إلا هو، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، وهذا في صحيح مسلم وغيره، وقال في الحديث الآخر: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم.

وقد أخبر به أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره].

الحديث الثاني، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك) قد تكلم بعضهم في إسناده، وبعضهم قواه وصححه، وهو دليل على أن أسماء الله سبحانه وتعالى ليست مقصورةً على تسعة وتسعين اسماً.

وإذا كان الله عز وجل قد استأثر بشيء من أسمائه سبحانه وتعالى، فمن باب أولى ما يتعلق بالكيفيات في صفاته سبحانه وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>