للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تعريف علم الكلام وذم الأئمة له]

لقد تكلم جماعة في تعريف علم الكلام وحدِّه، ومِن أخصِّ مَن تكلم في ذلك وشاع كلامه عند المعاصرين ابن خلدون صاحب المقدمة، فضلاً عن علماء الكلام أنفسهم؛ فإنهم يعرفون في مقدمة كتبهم هذا العلم، ويقولون: "هو معرفة العقائد الإيمانية بالحجج العقلية".

هذا هو التعريف الشائع في كلام النظار وبعض الأصوليين وغيرهم، وهذا التعريف غير صحيح؛ لأن هذا العلم لو كان من هذا الوجه فلا يمكن أن يكون معارضاً للشرع ومذموماً هذا الذم الذي ذُكِرَ في كلام الأئمة المتقدمين الذين أدركوه، فإنه قد تواتر عن أئمة السنة والجماعة كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من الفقهاء والمحدثين -تواتر عنهم أنهم ذموا علم الكلام وذموا أصحابه.

ومعلوم أن الدليل العقلي لم يشتهر في كلام الأئمة ذمه، وكذا نجد أن الله تعالى في كتابه ذم مسألة العقل؛ بل ذكر في كتابه أن العقل موجب ومحرك للهداية في مثل قول الله سبحانه وتعالى عن المشركين: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:١٠] فدل على أن العقل لو حققوه لاستجابوا للحق، وفي مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:١٧٩]

فالعقل ليس مذموماً في القرآن، وإنما يذم العقل إذا استعمل على غير وجهه، ووضع في غير موضعه، أو عورضت به الشريعة، أو ما إلى ذلك؛ فإن هذا هو الذي يذم.

أما علم الكلام فإنه قد تواتر عن الأئمة ذمه، واقرأ كتاب أبي إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي فقد حكى روايات متواترة عن الأئمة في ذمه.

أما سبب ذم الأئمة لعلم الكلام: فهو فساد معانيه، وقد قال بعض المتأخرين كـ أبي حامد الغزالي: "إن الأئمة كـ الشافعي وغيره ذموا علم الكلام لما فيه من الألفاظ المحدثة".

أي: التي لم يوجد ذكرها في القرآن والسنة، مع أن أبا حامد الغزالي وغيره يستعملون علم الكلام، وقد دافع الغزالي رحمه الله عن استعماله، فقال: "ولما كان في زمننا هذا احتجنا لاستعماله؛ لدفع صول الفلاسفة وغيرهم على الإسلام"، ومثل لذلك بقوله: "مثل لبس ثياب الكفار؛ فإنها لا تجوز، ولكن إذا قصد من لبسها المصلحة والنكاية وما إلى ذلك بالكفار كان ذلك جائزاً وليس من باب التشبه".

وهذا المثل الذي ذكره أبو حامد ليس هذا مورده ولا موضعه؛ بل الصواب أن علم الكلام مذموم، وذلك لسببين:

السبب الأول: لما فيه من الألفاظ المحدثة؛ فإن العقائد الإسلامية ينبغي أن يعبر عنها بحروف وكلمات الكتاب، وكلمات الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يصح أن يلقن المسلمون ويعلموا العقائد بألفاظ كان يتكلم بها المتفلسفة، أو ولدت من الفلسفة، أو ما إلى ذلك؛ بل لا بد أن يتكلم بكلام الله وكلام رسوله، وما نطق به الصحابة، وما يقارب ذلك، أما أن تُهجر هذه الكلمات الشرعية ويؤخذ بكلمات مخترعة محدثة في الإسلام فهذا ليس منهجاً عدلاً ولا صواباً.

السبب الثاني: أن هذا العلم تضمن معاني فاسدة، قال ابن تيمية رحمه الله في غير موضع في درء التعارض وغيره: "وذم الأئمة لعلم الكلام من جهة فساد معناه أعظم من جهة ذمه لحدوث ألفاظه".

وقد تولد عن هذا العلم بدعة المعتزلة بتعطيل صفات الله سبحانه وتعالى، وما إلى ذلك من البدع المعروفة في تاريخ المسلمين التي انحرف من انحرف بها من أهل القبلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>