للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة]

قال المصنف رحمه الله: [فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر، والكلام خبر وأمر، ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء؛ لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به ونفس ما نهي عنه؛ لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع أبقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهم ما لا يعلم بمجرد اللغة].

قوله: (الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة)؛ لأن الفقهاء يعرفون ما يسمى بالحقيقة الشرعية، ومن المعلوم أن علماء الأصول يقولون: هذه حقيقة شرعية، وحقيقة لغوية، أو العرف الشرعي، والعرف اللغوي ..

فيقول أبو عبيد -وهو من متقدمي أهل العلم العارفين بكلام العرب وفقه الحديث والرواية-: (إن الفقهاء أعلم بالتأويل -أي: التفسير- من أهل اللغة)، ووجه ذلك: أنهم -أي: أهل الفقه- يعلمون المعنى الذي قصده الشارع، بخلاف صاحب العربية الذي لم يستفصل في علم الشريعة، فربما ظن أن المقصود بهذه الكلمة من كلمات صاحب النبوة هو عين المعنى اللغوي.

- مسألة: هل جاءت الشريعة بزيادة على المعاني اللغوية أم لا؟ وهناك مسألة ذكرها النظار من المتكلمين، وبعض أهل السنة؛ كالإمام ابن تيمية، وأبي محمد ابن حزم، وهي مسألة: هل جاءت الشريعة بزيادة على المعاني اللغوية أم أن الأمر ليس كذلك؟ هل هذا ترادف أم أن الشارع قلب الأسماء اللغوية؟ أم أنها ثبتت على أصولها وزيد عليها؟

هذا فيه خلاف مفصل مطول ذكره أبو محمد ابن حزم في الفصل، وذكره ابن تيمية في مواضع، منها: في المجلد السابع من الفتاوى لما تكلم عن مسألة الإيمان عندما يقال: التصديق في اللغة وفي الشرع هو كذلك، أم أنه في الشرع هو كل ما شرع من الأقوال والأعمال؟ ثم ذكر الخلاف مع المرجئة في هذا الكلام.

لكن أقول هنا: إن ما يذكره ابن تيمية أو ابن حزم في: هل زادت الشريعة على اللغة، أم أنها نقلت اللغة، أم أن ثمة أوجهاً أخرى من الكلام؟ أقول: إن هذه الأوجه من البحوث والجدل والمناظرات والخلاف يقال فيها وينظر فيها، وقد يرجح فيها ..

لكن من المعلوم أنه لا يمكن أن ترد الحقائق في أصول الدين إلى الانتصار لقول يقبل الخلاف ويقبل الاجتهاد والمنازعة ..

وهذه طريقة في تقرير المعتقد لابد أن يكون طالب العلم على فقه فيها.

فلا ينبغي أن يبني هذا الحق الذي يجعله أصلاً من أصول الدين، كقوله: إن الإيمان في الشريعة هو كل قول وعمل شرعي -لا ينبغي أن يبني هذا على وجه من الدليل المركب على المعاني اللغوية، ويكون هذا الوجه قد حصل فيه نزاع، لكنه -أعني: هذا المتكلم به- انتصر له وصححه، فإنه حتى لو انتصر له وصححه فإن غيره يمكن أن ينازعه فيه.

إذاً: فما يعرض في كلام أهل العلم يقال: إنه نوع من الاستئناس في التقرير، أو نوع من قطع الحجج على المخالفين، أما أن الحقائق تبنى على ذلك، وعلى هذا الاختلاف، وعلى أنه إذا انتصرنا لقول الله تعالى مثلاً: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ} [يوسف:١٧] فكأن فقه مسألة الإيمان الشرعي عند المسلمين يدور على تفسير هذه الآية، فلا.

وقد نبه إلى هذا المعنى ابن تيمية، مع أنه يشتغل بهذه المعاني، لكن اشتغاله بها هو من باب كمال الحقيقة العلمية، ومن باب الاستئناس العلمي؛ ليقطع حجج المخالفين.

أما أن مدار المسألة يتفرع عن هذا التفسير، أو عن هذا النظر المعين الذي -إن صحح- قد ينازع فيه الغير وفي تصحيحه؛ فإن هذا لا يكون، ولذلك يقول ابن تيمية في بعض أجوبته مع المرجئة: "إنه يمتنع أن يكون فقه مسألة الإيمان، الذي ما بعث الله الرسل إلا من أجله، وما بعث الله الرسل إلا للتوحيد، وأصل التوحيد هو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة، إنه يمتنع أن يكون فقه هذه المسألة عند المسلمين مبنياً على آية من كتاب الله، ربما أن كثيراً من المسلمين لم يسمعها ولم يقرأها، أو أنه توفي وقد صح إسلامه وإيمانه قبل نزولها".

فهذا باب ينبغي أن يفقه، وهو أن أصول الدين ترد إلى دلائل وإلى قواعد مستقرة منضبطة، وهي كذلك، ولا ينبغي أن ترد إلى قول يقبل النزاع، ويقبل الاختلاف والمجادلة.

وقوله: (كما يعلم أتباع أبقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهم ...):

أبقراط هو الطبيب المعروف، وهو من أساطين الأطباء، وسيبويه هو عالم النحو المعروف.

<<  <  ج: ص:  >  >>