[المثال الثاني: هل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو بالتواطؤ أو بالتشكيك؟]
قال رحمه الله: [وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، أو بالتواطؤ، أو التشكيك؟]
الاشتراك اللفظي: هو أن يكون الاشتراك في الاسم اللفظي وحده، دون أن يكون هناك قدر من المعنى المشترك، وأما التشكيك -بمعنى أنه يشكك السامع له- فإنه يدخل في التواطؤ على التحقيق، وإن كان بعض المصطلحين يجعله ثالثاً، فهذا باب من الاصطلاح ليس إلا.
والفرق بين التواطؤ وبين التشكيك: أن التواطؤ يكون المعنى المشترك نسبته واحدة؛ بخلاف التشكيك؛ فإن النسبة تكون متفاضلة، فإذا كانت النسبة متفاضلة، سماه المصطلحون من باب التشكيك، وإذا كانت النسبة واحدة سموه متواطئاً, وإذا كانت النسبة ليست موجودةً سموه: مشتركاً لفظياً.
وهذا كله اصطلاح, ولك أن تقول: إنه كلام لا معنى له؛ لأن هذه الأشياء أصلاً هي موجودة في أذهان الناس، ولا تحتاج أن يصطلح عليها بهذا الاصطلاح المدقق المعين، ولذلك يقول ابن تيمية عن المنطق: "إنه لا يحتاجه الذكي، ولا ينتفع به البليد"، وهذه الاصطلاحات كذلك، فإنه يمكن أن تسمى بجملة من الأسماء، فمسألة أن يقال: هذا تواطؤ وهذا تشكيك، هي مصطلحات، وليس معنى ذلك أن فقه باب الاعتقاد، أو فقه أسماء الشريعة، أو فقه أصول الفقه لا يكون إلا من هذه المشكاة، فإن هذا كلام لا معنى له، وهو كما قال ابن تيمية عن المنطق: " إنه لحم جمل غث على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل"، فلا يفهم فاهم، ولا يظن ظان أن فقه ما يتعلق بصفات الله، أو ما يتعلق بأسماء الشريعة وفقهها وفروعها لا يكون إلا من هذه المشكاة، وأن من لم يفقه حد المتواطئ وحد التشكيك وحد الترادف، والفرق بين المشكك وبين المتواطئ، وبين المشترك اللفظي وغير اللفظي، والجنس، والخاص، والفصل القريب، وما إلى ذلك من أسماء المنطق -أن من لم يفقه هذا لا يكون أصولياً يعرف أصول الشريعة، ويعرف قواعدها.
وهذا ليس معناه الإبطال لهذا الباب، لكن الإبطال لهذه الأسماء، وأن هذه الأسماء والحدود هي أسماء جائزة موجودة، لكن لا يلزم أن الحقائق لا تعرف إلا من مشكاتها وحدودها.
ولما بالغ وغلا من غلا في مسألة المنطق، ركبوا صعباً، ولم يحصلوا فقهاً صحيحاً, وهناك فرق بشكل بدهي بين المنطق وبين علم أصول الفقه، ولكن بعض الأصوليين يجعل للأصول مقدمة منطقية، أو يبني كثيراً من معانيه على المصطلح المنطقي.
ومن الذين بالغوا في علم المنطق مثلاً: أبو محمد ابن حزم، فقد امتدح المنطق مدحاً صارماً؛ بل إنه يقول: "إن أرسطو كان نعمة من الله على خلقه لما وضع هذا المنطق ورتبه"، ويقول ابن حزم: "إننا نتقرب إلى الله بتقريب هذا المنطق إلى العامة"، وإذا قيل: إن المنطق هو الأسماء، فإن هذا حقيقة باطلة؛ لأن المنطق هو العقليات، فإذا جعل المنطق له اصطلاح، قيل: إن من الممكن منازعة شخص لا يتكلم العربية، والحقائق عندهم واحدة، ويكون موجب الاختلاف أوجه أخرى.
إذاً: هذا الاصطلاح هو اصطلاح داخل لغة واحدة، هذا إذا سلم أن المصطلحات مصطلحات عربية فصيحة، فلو كانت مصطلحات عربية فصيحة، لقلنا: إنه اصطلاح داخل لغة.
فالمنطق إذا ما فسر بالاصطلاح قيل: لكل أحد أن يصطلح بمصطلح، وإذا ما فسر المنطق بالحقائق، فإن الحقائق موجودة عند بني آدم، والوجه الذي قد يكون حسناً في المنطق -حتى يكون الكلام معتدلاً مقتصداً- هو أن بعض الطرق المنطقية تكون منظمة للجدول العقلي الذهني، فإذا ما فسر المنطق بأنه نوع من التنظيم فيما كان صحيحاً؛ فإن هذا كلام صحيح.
أما إذا فسر بأنه نوع من التأويل، فالحق أنه ليس تأويلاً؛ لأن الحقائق قائمة في نفوس الناس بأي اسم عبروا بها، وأما أنه نوع من التنظيم فهذا صحيح، ولذلك قال ابن تيمية: "لا يحتاجه الذكي"؛ لأن الذكي يستطيع أن ينظم بأكثر من طريقة، "ولا ينتفع به البليد"؛ لأن البليد به يعرف التعيين لكن لا يعرف التنظيم.
فمثلاً: إذا تلكم متكلم بنظام عقلي منطقي معين، فإن السامع يصدق هذا الكلام، ويعتبره من الأشياء البينة، لكن هل يستطيع أن ينظم هذا التعيين على هذا التقرير الذي قرره هذا المعين؟ الجواب: لا يلزم ذلك.
ولذلك يقول ابن تيمية: إن الأصل في بني آدم أنه تقوم في نفوسهم من المعارف والعلوم ما لا يستطيعون أن يعبروا عنه من جنس هذا التعبير، وهو التعبير المنطقي، ولذلك فإن المتفلسفة عندما صرفوا أنظار العالم حقيقةً ليس ذلك من باب أنهم يعينون حقائق؛ بل غلطهم في الحقائق أكثر من صوابهم، ولكن الذي جعل الكثير ينصرف إليهم، ويكون معجباً بهم، حتى عندما دخلت على المسلمين تأثر بها من تأثر، هو أن هؤلاء عندهم نوع من التنظيم للمعارف، سواء قيل: إنها صادقة، أو قيل: إنها غلط.
إذاً: هذا باب ينبغي أن يكون مقتصداً فيه، حتى لا يظن أو يفهم من هذا النقد للمنطق إهداره جملة؛ بل إن من يقرأ المنطق ليتعلم طرق التنظيم، وطرق التحصيل بمسائل الحجج وما إلى ذلك، فإن هذا وجه حسن، لكن من يقرأ المنطق، ويظن أنه يعين به الحقائق، أو أن الحقائق الشرعية والعلمية لا تعين إلا من مشكاته؛ فهذا غلط.
وهذا هو الوسط في علم المنطق بين من غلا في شأنه، وبين من حرمه وسفهه من كل وجه.