الاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية
قال المصنف رحمه الله: [وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية].
يشير المصنف هنا إلى منزع هذه الطرق والسفسطة العقلية، فهي ليست من أوائل عقولهم، وإنما تلقوها عن مقدمات مشائية، والمشاءون هم أتباع أرسطو طاليس من الفلاسفة اليونان.
ثم ذكر رحمه الله قاعدة عقلية، وهي: أن الاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية؛ لأن الحقائق العقلية حقائق عقلية مشتركة في العقل البشري، سواء عبر عنها بلسان العرب أو غير العرب، وسواء عبر عنها بمصطلح متقدم أو مصطلح متأخر ..
إلخ، ولذلك يقال: إن أرسطو طاليس هو الذي وضع علم المنطق، ثم جاء من يسمى بالمعلم الثاني وهو أبو نصر الفارابي، ثم جاء ابن سينا وأكمل نظمه.
فما كان من هذا المنطق صحيحاً، فليس صحيحاً أن أرسطو هو الذي وضعه ..
نعم، هو موجود، لكن أرسطو اصطلح عليه، كما أنه يقال: إن الخليل بن أحمد هو الذي وضع علم العروض، فهل معناه: أنه هو الذي اخترع هذه الأوزان، ثم جاء الشعر ليقف على هذه الأوزان أو يجري عليها، أم أن الشعر سابق على مصطلح الخليل بن أحمد؟ لا شك أن الثاني هو الصحيح.
إذاً: هذا من باب الاصطلاح، وليس من باب الإيجاب.
قال المصنف رحمه الله: [وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:٢٠ - ٢١] فسمى الجماد ميتاً، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرها].
محصل هذا الوجه: أن المصنف يريد أن يقول: إن قولك: إن الجبل ليس بميت، أو لا يقبل الموت والحياة، هذا اصطلاح، وظاهر القرآن والعرب تستعمل في كلامها أنه يمكن أن يقال عن الجبل: إنه ميت، كما قال الله تعلى عن هذه الأصنام، وهي من حجر أو خشب أو ما إلى ذلك: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل:٢١] فاسم الموت لا يلزم أن يكون ممنوعاً من باب المصطلحات، وعلى هذا فإنه قد ينازع في اصطلاحهم.
قال المصنف رحمه الله: [وقيل لك: ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت، والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك].
وهذا بين كما سبق بيانه.
قال رحمه الله: [وأيضاً فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعاً من القابل للوجود والعدم؛ بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعاً مما نفيت عنه الوجود والعدم، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول فذلك أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد].
وهذا ما ينتهي إليه غلاتهم؛ ولذلك سبق أن قال المصنف: إنهم يشبهونه بالموجودات، ثم قال: يشبهونه بالمعدومات، ثم قال: إن الغلاة يشبهونه بالممتنعات.
ومعنى هذا الكلام: أنهم يتسلسلون، فإذا خرجوا من التشبيه بالموجودات الغير الحية، وأرادوا أن ينفكوا من هذا الإشكال، قال: لزمهم أن يشبهوه بالمعدومات، فإذا خرجوا من هذا الإشكال لزمهم أن يشبهوه بالممتنعات.
فهناك حقيقتان: إما الإثبات، وإما النفي، والإثبات صفة للموجود الحي، والنفي إما أن يكون صفة للموجود غير الحي، وإما أن يكون صفة للمعدوم، وإما أن يكون صفة للممتنع، مع أن المصنف يقول: إن الموجود غير الحي يمكن أن يوصف بإثبات أو نفي، لكن لو اتبعنا طريقتهم فقلنا: إن الإثبات هو للموجود الحي، والنفي للصفات هو وصف الموجود غير الحي، أو وصف المعدوم، أو وصف الممتنع، فيقول المصنف: لو كان هذا هو التشبيه -الاشتراك في الاسم المطلق- الذي نفته النصوص؛ لكان الانفكاك منه ممتنعاً؛ لأنك إن أثبت شبهت بالموجودات الحية، وإن نفيت شبهت بالموجودات غير الحية، أو شبهت بالمعدومات، أو شبهت بالممتنعات، فيكون الانفكاك منه لا يسلم منه أحد؛ لا من أثبت الصفات، ولا من نفى الصفات، ولا من نفى النقيضين، ولا غير ذلك؛ مما يدل على أن هذا ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص.