[الكلام على حديث: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)]
قال المصنف رحمه الله: [وأما قوله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)، فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه.
ولا في قول القائل: هذا بين يدي، ما يقتضي مباشرته ليديه.
وإذا قيل: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:١٦٤] لم يقتض أن يكون مماساً للسماء والأرض، ونظائر هذا كثيرة].
فالبينية لا تستلزم المماسة، وإن أمكن ذلك في بعض السياقات من كلام العرب، فإن هذا ليس مطرداً لازماً؛ بل إن جمهور لغة العرب إذا ذكروا البينية وقالوا: إن هذا الشيء بين يدي الشيء، ونحو ذلك، فليس هذا من باب المماسة.
فإذا جاز في سياق من كلام العرب، فلا يلزم أن يجوز في سائر السياقات، ولذلك فإن القرآن الكريم يفسر بكلام العرب، ويبنى تفسيره على كلام العرب، لكن لا بد من اعتبار السياق، فإن أهل اللسان العربي من أكثر الأمم تعدداً في السياقات، فكلماتهم يتعدد سياقها تعدداً كثيراً، ولكثرة هذه السياقات ظهر ما يسمى بنظرية الحقيقة ونظرية المجاز، مع أن الأمر لم يكن محتاجاً إلى مثل هذا التقسيم.
فالمقصود: أن كلمة البينية لا تستلزم المماسة، ولذلك فإن الله تعالى يقول: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:١٦٤] ولم يلزم من ذلك أن يكون السحاب مماساً للأرض ولا مماساً للسماء، مع أن هذا كلام عربي معروف، وقد ذكره الله تعالى في كتابه.
ومن رد تفسيره المخالف لإجماع الأئمة إلى لسان العرب، فإنه ينظر معه في مقامين:
المقام الأول: التحقق من أن لسان العرب يجوز هذا المعنى على هذا اللفظ فرداً, فإذا ما وجد أن في لسان العرب تجويزاً لهذا المعنى على هذا اللفظ من حيث هو لفظ فرد، قيل: ينظر معه في المقام الثاني.
المقام الثاني: التحقق من أن لسان العرب يجوز هذا المعنى فيما شاكل أو ماثل السياق القرآني الذي تأوله.
وأحياناً ينقطع المتأول في المقام الأول، فمثلاً: قولهم: إن (استوى) بمعنى: استولى، إذا نظر في لسان العرب فإنهم لا يستعملون هذا المعنى حتى في مقام الإفراد، ولو فرض أنهم يستعملونه، قيل: لا بد من النظر في السياق، فإنه لو صح -كما زعموا- أن العرب نطقوا بهذا المعنى، كما في قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق
فيقال: هذا سياق آخر، أما السياق الذي في القرآن فليس هو كذلك؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالاستيلاء؛ لأن الاستيلاء يكون عن مغالبة، وعن انتزاع، وكأن أحداً نازعه أو غالبه في ملكه، أو ما إلى ذلك.
وحتى إذا فسر الاستيلاء بالملك الذي ليس عن مغالبة، فإن ملكه سبحانه وتعالى ليس مختصاً بالعرش وحده؛ بل هو ملك السماوات والأرض ومن فيهن.
وهذا يدل على أهمية اعتبار السياق.