وهذه أقرب خطوة من الزراعة نحو الحضارة. وفيها استقرار فى قطعة أرض معينة. لا يستطيع أن يفارقها المرء وتضعف فيها حالة التجول، ويقل الالتفات الى غير المغروسات. وكأنها حددت صاحبها وجعلته يستقر فى موطن بعينه لا يتعداه. وان مفارقته اهمال وتهاون به.
وحينئذ يضعف الارتباط العشائري. وقلّ أن تراعى المجموعة الا فى تشكيل قرية وان يكونوا من عشيرة واحدة. واذا دخلهم غيرهم فيراعى فى ذلك ما يراعى من تعاون فى عصبة العشيرة. فانها اذا تغلبت وتكونت منها الاكثرية كان لها الصوت والا صارت مجموعة مدنية تألفت لغاية الانتفاع من الغرس فهى مقيدة بمقداره وبمقدار حقوق القرية بوجه عام وتماسك أهليها وتعاونهم.
ذلك ما يؤدي الى التقرب نحو الحضارة، ويسوق الى تكوين القرى. فاذا غرست بساتين عديدة أدى ذلك الى تكوين القرية. وعاش القوم عيشة أهل المدن، وفقدوا الكثير من عصبياتهم وأحوالهم العشائرية. وقلّت المسؤولية التكاتفية بين أفراد العشيرة، وعادت الى تعاون أهل القرية وان لم يكن بينهم صلة قربى، أو قرابة قريبة. وهذا هو التعاون الاجتماعي.
أوضحت عن الغرس فى (كتاب النخل) وذكرت التعاملات فيه مفصلا. والمهم ان نحدد حقوق الغارس، وحقوق الدولة والملاك أو صاحب اللزمة، والصرافة، أو التعابة والفلاحة. وبذلك تتقرب الاوضاع من المساهمة بصورة خالية من التحكم ليتمكن الغارس من الانتفاع نوعا ولا يحرم رب الارض. ويقال فى هذه ما قيل فى الارضين وحقوق الملاكين والزراع فى كل منها.
٧ - الاراضي وقانون التسوية غالب ما يحدث من نزاع بين العشائر أصله (الارضون) . تطمح النفوس فى أموال الناس. ولا سبب له الا الضعف، والعجز عن الحصول على المال. وهذا سببه ان هؤلاء لا يقومون بما يعد من خسائس الامور فى نظرهم مثل الانتاج الحيواني والزراعي، وما ماثل فيترفعون عنها. أو لا تلائم حياتهم.
وفى الارياف نرى الاراضي بيد أهلها. فكل عشيرة تملك أرضا تزرعها وتعيش عليها. فاذا حصل عليها اعتداء مالت الى ضرورة القتال دونها. وجرّت هذه الحروب فى الغالب الى اندفاع العشائر القريبة لبعضها الى حمايتها ومن ثم حصل الاشتباك المستمر فى المعارك حتى تقوى واحدة، أو أن ترجع المتغلبة الى حالتها ناكصة على الاعقاب، ويبقى العداء. وربما حصل تدافع بين العشائر وتشوش الوضع مدة حتى يتدخل المصلحون والكلمة للغالب، وان التحكيم ينقلب الى تحكم وهكذا يقال فى الاختلاط من جراء ذلك.
والتسوية عملها مفيد من جهة تسجيل الاراضي وتثبيت وضعها الواقعي، ومن جهة أنها بعد أن عينت صلة الزراع بالارض قطعت الصلة بالمراجعة لمديرية العشائر وحسم الخصومات من طريق الادارة، وصارت تراجع المحاكم المدنية فى فصل النزاع. وكانت الغاية المنشودة من هذا القانون ان ينال المستثمر نصيبه فى الاراضي الاميرية، وتسجل باسمه حصته بالاشتراك مع غيره أو بالانفراد.
جرى فعلا مثل هذا فى أماكن عديدة كانت سلطة الدولة فيها قوية ومكينة وفى الاماكن الاخرى نرى التغلب مشهودا. والاثرة من الرؤساء سائدة، والقوة بارزة للعيان. فلا يستطيع الفلاح أن يطالب باستثماره وتقديم بينة على حقه والا أخرج الى ما وراء حدود الاراضي، أو أصبح قتيلا.
ومن كان مهددا بذلك لا يستطيع المطالبة بحقوقه القانونية.
والارض فى الحقيقة للعشيرة فاستأثر الرؤساء وحاولوا أن يكونوا ملاكين بعد ان كانوا رؤساء لما شعروا به من ضعف سلطتهم أو تحقق ذلك لهم يقينا.
وكان الاولى بالدولة أن تسجل ما هو تحت تسلطها وقدرتها والا فلا فائدة منه ولا ضرورة داعية لاجرائه وبعملها هذا قد مكنت النفوذ، وقوّت التغلب بصورة جديدة. والاولى بها أن لا تسجل الا ما هو من أراضي الطابو أو ما هو بعيد عن العمران ولا منازع فيه ولا مالك له حتى تتمكن من تسجيل ما تستطيع تسجيله تبعا لما تريد منحه من اللزمة للمستثمرين حقيقة.
سجلوا أولا باسم الرؤساء بداعي انه يمثل العشيرة، ثم استأثروا، وصاروا يأخذون الملاكية، وحصة الارض بصورة جائرة حتى فى الاراضي السيحية.