الأوصاف التى جرت عليها في الشرع قاضية بأن النسبة بين المكروه تنزيهًا وبين أدنى البدع بعيدة المنال. فمرتكب المكروه قصد نيل شهوته العاجلة متكلًا على العفو اللازم فيه ورفع الحرج الثابت في الشريعة، فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب، وأيضًا فليس عقده الإيمانى بمتزحزح لأنَّه يعتقد المكروه مكروهًا كما يعتقد الحراء حرامًا وإن ارتكبه فهو يخاف الله ويرجوه، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان، وأيضًا مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل شأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه (ومرتكب أدنى البدع) يكاد يكون على ضد هذه الأحوال، فإنه بعد ما دخل فيه حسنًا، بل يراه أولى مما حد له الشارع، فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلًا ونحلته أولى بالاتباع!؟
يدل على أنها لا تكون مكروهة تنزيهًا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"من رغب عن سنتى فليس منى" متفق عليه من حديث أنس ردًا على من قال من الصحابة: " أما أنا فأقوم الليل ولا أنام " وعلى من قال: " أما أنا فلا أنكح النساء " فأتى بهذه العبارة وهى أشد شيء في الإنكار، ولم يكن ما التزموا إلَّا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر. وكذلك ما في الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلًا قائمًا في الشمس فقال: " ما بال هذا؟ " قالوا: نذر ألا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" مره فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صومه " رواه البخارى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال مالك: أمره أن يتم ما كان عليه لله فيه طاعة، ويترك ما كان عليه فيه معصية، ويعضد هذا الذى قاله الإمام مالك ما في البخارى عن قيس ابن أبي عاصم قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة من قيس
يقال لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال:"ما لها؟ " فقالت: حجت مصمتة. قال لها:"تكلمى فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية" فتكلمت. فتأمل كيف جعل القيام للشمس وترك الكلام من المعاصى، مع أنها في أنفسها من المباحث، لكنه لما أجراها مجرى ما يتشرع به ويُدان الله به صارت معاصى لله عند الإمام مالك رضي الله عنه،