للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويدل على هذا أيضًا أن عمر رضي الله عنه ضرب صبيغًا العراقى وحبسه ولم يكن ما وقع منه إلَّا أنه كان يسأل عن أُمور في القرآن لا ينبنى عليها عمل، فقد قيل: إنه كان يسأل عن: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} (١)، {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} (٢) وما أشبه ذلك، وروى أنه كان يطوف بكتاب الله معه ويقول: من يتفقه يفقهه الله، من يتعلم يعلمه الله، فأخذه عمر فضربه بالجريد الرطب، ثم سجنه، حتى إذا خف الذى به أخرجه فضربه فقال صبيغ حينما أراد أن يضربه الثالثة: إن كنت تريد قتلى فاقتلنى قتلًا جميلًا، وإن كنت تريد أن تداوينى فقد والله برئت، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه أن يقاطعه المسلمون، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر رضي الله عنه أن قد حسنت سيرته، فكتب إليه عمر أن يأذن للناس بمجالسته، فمثل هذه التعازير إنما تكون لجناية أربت على كراهة التنزيه إذ لا يستباح دم امرئ مسلم، ولا عرضه بمكروه تنزيهًا وإنما كان ما وقع من صبيغ بدعة مذمومة لأنَّه اشتغال بما لا يعنى، إذ لم يكن مما ينبنى عليه عمل حيث كان يبحث عن متشيهات القرآن، أفاده في "الاعتصام"، وصبيغ بوزن عظيم واسم أبيه عسل بكسر أوله. وجملة القول في قِصته أنه كان أول من وقع منه الشك وتشكيك الناس في متشابه القرآن ابتغاء تأويله، وكان قد كثر الداخلون في الإسلام من الشعوب المختلفة، فخشى عمر رضي الله عنه الفتنة عليهم، فأدبه وأبعده إلى البصرة ونهى الناس عن مجالسته ومكالمته، فاشتد ذلك عليه فتاب في بدعته وعفا عنه عمر رضي الله عنه.

وما ورد في كلام كثير من العلماء من إطلاق لفظ الكراهة على بعض البدع لا يريدون بها كراهة التنزيه، فإن استعمال الكراهة فيما يترجح جانب تركه من غير أن يكون في فعله عقوبة اصطلاح للمتأخرين من العلماء قصدًا إلى التمييز بين هذا وما يكون حرامًا، وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص

فيه صريحًا أن يقولوا هذا حلال، وهذا حرام، ويتحامون هذه العبارة خوفًا مما في الآية من قوله جل ثناؤه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦)


(١) [سورة النازعات: الآية ٣].
(٢) [سورة المرسلات: الآية ١].

<<  <   >  >>