للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تعالى) وذلك هو تمام معنى البدعة؛ إذ هو المقصود بتشريعها

وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع للعبادة والترغيب في ذلك لأن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (١) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحداد كافٍ في التعبد فاخترع ما اخترع.

وقد تبين بهذا القيد أن العادات لا تدخل في معنى البدعة، فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهى المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما يشبه فرض الزكاة ولم يكن إليها ضرورة. وكذا اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان وما أشبه ذلك من الأمور التى لما تكن من قبل فإنها لا تسمى بدعًا على أحد الرأيين وإلى هنا قد تبين الحد على الرأى الآخر إلَّا قوله: (يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية) ومعناه: أن الشريعة إنما جاءت بمصالح العباد في العاجل والآجل لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها فهو الذى يقصده المبتدع ببدعته؛ لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتى تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه، وإن تعلقت بالعادات فكذلك فإنه إنما وضعها لتأتى أمور دنياه على تمام المصلحة فيها. فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول أتم منه بغير المنخول، وكذلك المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولى الأمر، وقد أباحت الشريعة التوسع. في التصرفات فيعد المبتدع هذا من ذلك. وإلى هنا ظهر معنى البدعة وما هى في الشرع. ونسب الرأى الأول في معنى البدعة إلى الأمام مالك وأصحابه وجرى عليه الشاطبى ومحصله أن البدعة شرعًا ليس لها إلَّا معنى واحد وهو ما أحدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه دين وشرع بأن يجعل من الدين ما ليس منه، بناء على تأويل وشبهة غير معتد بها. فالمبتدع مشرع ومتبع هواه، وهو الذى ابتدع في دين الله وقد جعل نفسه نظيرًا ومضاهيًا للشارع، حيث شرع مع الشارع، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع


(١) [سورة الذاريات: الآية ٥٦].

<<  <   >  >>