ظن أنه سالك للجادة كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه يوشك أن يضل عنها فيقع في متابعة وإن كان بزعمه يتحرى قصدها. فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضل في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله، وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره؛ لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه وأخذ الأدلة بالتبع، ومن شأنه الأدلة أن يؤخذ فيها بالظواهر وكل ظاهر يمكن أن يصرف من مقتضاه في الظاهر المقصود ويتأول على غير ما قصد فيه، فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها كان الأمر أقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع فكان المبتدع أمرق في الخروج عن السنة وأمكن في ضلال البدعة، فإذا غلب الهوى، أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما أراد منها، فالمبتدع ينساق له من الأدلة المتشابه منها لا الواضح، والقليل منها لا الكثير، فهو يظن أنه على الطريق وقد زاغ به الهوى، بخلاف غير المبتدع، فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه وآخر هواه (إن كان) فجعله بالتبع، فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحًا في الطلب الذى بحث عنه، فوجد الجادة، وما شذ عن ذلك فإما أن يرده إليه، وإما أن يكله إلى عالمه، ولا يتكلف البحث عن تأويله، فلا يصح أن يسمى من هذه حاله مبتدعًا لأنَّه اتبع الأدلة مؤخرًا هواه مقدمًا لأمر الله، ولا ضالًّا لأنَّه على الجادة سلك، وإليها لجأ، فإن خرج عنها يومًا ما فأخطأ فلا حرج عليه، بل يكون مأجورًا، وإن خرج متعمدًا فليس على أن يجعل خروجه طريقًا مسلوكًا له أو لغيره وشرعًا يدان به، على أنه إذا وقع الذنب موقع الاقتداء قد يسمى استنانًا فيعامل معاملة من سنه كما جاء في الحديث:"من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها … " الحديث، وقوله صلوات الله وسلامه عليه:"ما من نفس تقتل ظلمًا إلَّا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنَّه أول من سن القتل" فسمى القتل سنة بالنسبة إلى من عمل به عملًا يقتدى به فيه لكنه لا يسمى بدعة؛ لأنَّه لم يوضع على أن يكون تشريعًا، ولا يسمى ضلالًا لأنَّه ليس في طريق المشروع أو في مضاهاته له، وهذا تقرير واضح يشهد له
الواقع في تسمية البدع ضلالات (وبالجملة) الضلال في الغالب إنما يستعمل في موضع يزل صاحبه لشبهة تعرض له أو تقليد من عرضت له