للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وارتفع آخرون عن الوسط فغلوا في الدين بما أحدثوا فيه من البدع فبقوا هم وسطًا بين الفريقين المقصرين والغالين.

(الثالث): أنه اتباع للهوى؛ لأن العقل إذا لم يكن متبعًا للشرع لم يبق له إلَّا الهوى والشهوة وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنَّه ضلال مبين، قال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (١). فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده: الحق والهوى: إذ لا يكن في العادة إلَّا ذلك وقال: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (٢) فجعل الأمر محصورًا بين أمرين: اتباع الذِّكر واتباع الهوى، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (٣) الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى، والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين فإنها عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين: أحدهما الشريعة، لا مرية في أنها علم وحق وهدى، والآخر الهوى وهو المذموم لأنَّه لم يذكر في القرآن إلَّا في مساق الذم ولم يجعل ثم طريقًا ثالثًا، والآية صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه فلا أحد أضل منه وهذا شأن المبتدع فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله -وهدى الله هو القرآن، وما بينته الشريعة- فكان أضل الناس وهو يظن أنه على هدى (وصفوة القول) أن البدع ضلالة وأن المبتدع ضال ومضل والضلالة مذكورة في كثير مما تقدم من الآثار ويشير إليها في الآيات الاختلاف والتفرق شيعًا وتفرق الطرق بخلاف سائر المعاصى، فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة إلَّا أن تكون بدعة أو شبه بدعة، وكذلك الخطأ الواقع في المشروبات (وهو المعفو عنه) لا يسمى ضلالًا ولا يطلق على الخطئ اسم ضال كما لا يطلق على المتعمد لسائر المعاصى.

والسر في هذا أن الضلال في الأصل ضد الهدى وهما حقيقة في المحسوس، تقول: هديته الطريق دللته عليه، ورجل ضل من الطريق إذا خرج عنه؛ لأنَّه التبس عديه الأمر ولم يكن له هاد يهديه، فصاحب البدعة لما غلب عليه الهوى مع الجهل بطريق السنة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم فهو ضال من حيث


(١) [سورة ص: الآية ٢٦].
(٢) [سورة الكهف، الآية ٢٨].
(٣) [سورة القصص: الآية ٥٠].

<<  <   >  >>