كذلك فكأن المبتدع يقول: إن الشريعة لم تتم وأنَّه بقى منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها لأنَّه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولم يستدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
(قال) ابن الماجشون: سمعت مالكًا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(١) فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا.
(الثانى): أن المبتدع معاند للشرع ومشاق له؛ لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهى، والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنَّه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين (فالمبتدع) راد لهذا كله، فإنه يزعم أن ثم طرقًا أخرى وليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضًا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لا يعلم الشارع، وهذا إن كان مقصودًا للمبتدع فهو كفر وإلَّا فضلال مبين.
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضى عنه عنه إذ كتب له عدى بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية فكتب إليه، أما بعد: فإنى أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضى به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببَصر نافذ قد كفوا، وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل كانوا فيه أحرى. فلئن قلتم أمر حدث بعدهم ما أحدثه بعدهم إلَّا من اتبع غير سننهم ورغب بنفسه عنهم. إنهم لهم السابقون فقد تكلموا منه بما يكفى ووصفوا منه ما يشفى، فما دونهم مقصر وما فوقهم محسر، لقد
قصر عنهم قوم فجفوا، وطمح آخرون فغلوا، وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم. ثم ختم الكتاب بحكم مسألته ومقصود الاستشهاد قوله:"فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها ". قوله: قصر … إلخ: أي قصروا عنهم بترك بعض ما كانوا عليه في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقطعوا صلتهم به