للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بحقيقة النّبوّة من لم يذق شيئا من سلوك طريق أهل الله تعالى، وأولياء الله تعالى، برياضة الأنفس وتزكيتها، وتصفية القلوب، وتهذيب الأخلاق.

لأنّ كرامات الأولياء على التّحقيق بدايات الأنبياء، وقد كان ذلك أوّل حال نبيّنا صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتعبّد في (حراء) ، وكان يؤثر العزلة للخلوة بربّه، والتّجرّد والتّبتّل؛ وهو الانقطاع عن الخلائق إلى الخالق، وهو الذّهاب إلى الله تعالى، الّذي أشار إليه الخليل عليه الصّلاة والسّلام بقوله: وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الصّافّات ٣٧/ ٩٩] .

فمن مارس تلك الطّريق اتّضح له طرف من حقيقة النّبوّة، ما هي وخاصّيّتها بالكشف والعيان، ومن لم يبلغ هذه الرّتبة فلا بدّ له من التّنبيه على أصلها وإمكانها، ثمّ وجودها عموما، ثمّ لشخص معيّن، بإقامة البرهان، لشدّة مسيس الحاجة إليها.

وأمّا دليل أصلها: فكلّ عاقل قاطع بأنّ الإنسان أوّل ما يدرك من مراتب العلم في صغره/ وطفوليّته العلم بالحواسّ الخمس، الّتي هي. السّمع، والبصر، والشّمّ، والذّوق، واللّمس.

فيدرك بكلّ واحدة من هذه عالما لا يدركه بالآخرى، ومن تعطّلت عليه حاسّة منها- كالبصر مثلا- لم يدرك ما حقيقة الألوان، إلّا بسماعها بالتّواتر، فإنكاره لها مكابرة جاهل بما لم يعلم، وتكذيب بما لم يحط بعلمه، وقد أحاط به غيره، فيحتجّ عليه المبصر بأنّ عندك حاسّة الشّمّ وزيد أخشم «١» لا يفرّق بين رائحة المسك والجيفة، فماذا نقول له لو زعم التّسوية بين المسك والجيفة؟


(١) الأخشم: من أصابه داء في أنفه فأفسده، فصار لا يشمّ.

<<  <   >  >>