فإن زعمت أنّه مكذّب بما لم يحط بعلمه من المشمومات، فهو أيضا يزعم أنّك مكذّب بما لم تحط به من الألوان المبصرات، ولا يسعك إلّا أن تؤمن له بوجود الألوان وتنوّعها، ويؤمن لك بوجود المشمومات وتنوّعها. وهكذا في المطعومات والملموسات والمسموعات.
وهذا الإدراك حاصل للطّفل، لا يدرك غيره من العوالم إلى سنّ التّمييز، فإذا بلغ سنّ التّمييز خلق الله فيه أمورا عقليّة زائدة على تلك الحسّيّة؛ كالتّمييز بين الجائزات والمستحيلات والواجبات.
فإذا قلت مثلا للطفل: رشّ هذا الحجر ليصير ليّنا كالطين اعتقد جواز ذلك دون المميّز، ولو قلت للمميّز الّذي سقط من يده القدح الّذي فيه الشّراب: هذا القدح انكسر والشّراب لم يتبدّد لعلم أنّك تهزأ به، إذ من لوازم انكسار القدح تبدّد الشّراب الّذي هو فيه.
وهكذا لو قلت له غير ذلك. وهو في هذا العالم إلى بلوغ سنّ التّكليف الّذي يتحمّل به الأمانة الشّرعيّة فيكمل تمييزه، فيخلق الله فيه طورا آخر من العقل، بحيث يوثق بأقواله وأفعاله، وتطمئنّ النّفس لمعظم أحواله، ولا يزال يزداد بالتّجربة عقلا. فكلّ عاقل يقطع بأنّ سنّ التّمييز طور وراء سنّ الطّفوليّة، وسنّ العقل طور وراء سنّ التّمييز.
وإذا قطع العاقل/ بذلك قلنا له: ليس في العقل أيضا ما يحيل أنّ فوق طوره طورا آخر، وفوق ذلك الطّور طورا آخر، وهلمّ جرّا.
فكما أنّ قدرة الله صالحة لأن يخلق في المميّز ما لم يدركه الطّفل من العلم، وفي العاقل ما لم يدركه المميّز؛ فهو سبحانه قادر على أن يخلق في بعض العقلاء طورا لا يدركه العقلاء؛ من الاطلاع على الغيب، وفتح عين في القلب تسمى: البصيرة الباطنة، بمثابة البصر لعين الرأس الظّاهرة، والعقل عن هذا الطّور معزول، كعزل قوّة الحواسّ عن التّمييز، وعزل التّمييز عن المعقولات،