واستقدم سعيد بن المنذر الوزير من كورة تدمير، ليغزو معه. وأخرج محمد ابن إسحاق مديلا له؛ فاحتل في طريقه بحصن المنتلون من كورة جيان، وأنزل عنه عبد الله بن سعيد بن هذيل، وعزله عن سائر الحصون التي كانت بيده؛ واستعمل على الجميع عبد العزيز بن مسلمة وعبد الله بن عمرو بن مسلمة؛ وعهد بهدم أكثر حصون جيان وقصابها، إذ كانت مستركحا لأهل الشر والخرف، وضررا على أهل الطاعة والاستقامة؛ وكذلك ما فعل بحصون إلبيرة، حتى احتل بحصن اشنين يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول؛ وكان أهله على مكايدة باطنة، وإظهار طاعة تحتها مداهنة؛ فعرض عليهم الناصر النزول عن حصنهم إلى البسيط حوله؛ فاضطربوا في أمرهم، ولاذوا عن رشدهم؛ فاحتلت العساكر بهم، وأخذ بالجد والعزم في محاصرتهم، وأحيط بهم من جميع جهاتهم، وبنيت عليهم ستة حصون يقابل بعضها بعضا، حتى عادوا في مثل حلقة الخاتم ضيقا وحصارا. وبقى الناصر على محاصرتهم خمسة وعشرين يوما، وهو يدأب مع ذلك في استصلاح أمور رعيته، وتأمين سبلهم، وقطع المخاوف عنهم، ويشخص بنفسه إلى مل جهة من جهاتهم.
وفي هذه الغزاة، استجلب الناصر وليَّ عهده وعماد أنسه الحكم المستنصر بالله من قصر قرطبة إلى معسكره، وهو في ذلك الوقت ابن عشرة أعوام وثمانية أشهر ونصف، إذ استوحش له، وتاقت نفسه الكريمة إليه؛ فقدم عليه - أبقاه الله - بهذه المحلة مع ثقات رجاله وفتيانه؛ واستخلف له في القصر أخوه عبد العزيز لينفذ الكتب باسمه إلى وقت منصرفه. فأنس - رحمه الله - به، وسر بقربه. وقفل الناصر من هذه الغزاة يوم الجمعة لست خلون من ربيع الآخر، بعد أن أرتب الوزيرين سعيد بن المنذر وعبد الحميد بن بسيل على حصن اشتين، محاصرين لأهله في كثف من الحشم. ودخل القصر بقرطبة يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر، وقد استتم في غزاته خمسين يوما.