قال ابن بسام: كان جعفر بن عثمان رجلا بلغ المنتهى، وسوغ برهة من دهره ما اشتهى، دون مجد تفرع من دوحته، ولا فخر نشأ بين مغداه وزوجته. فسما دون سابقة، وارتقى إلى رتبة لم تكن لبينته مطابقة؛ فلم يزل يستقل ويضطلع، وينتقل من مطلع إلى مطلع، حتى التاح في أفق الخلافة، وارتاح إليها بعطفها كنشوان السلافة؛ وحجب الإمام، وانسكب برأيه ذلك الغمام. فأدرك بذلك ما أدرك، ونصب لأمانيه الحبائل والشرك، واقتنى وادخر، وأزرى بمن سواه وسخر. واستعطفه محمد بن أبي عامر، ونجمه غابر لم يلح، وسره مكتوم لم يبح؛ فما أقبل عليه ولا عطف، ولا جنا من روضة دنياه زهرة أمل ولا قطف؛ وأقام في تدبير الأندلس، وهو يجري من السعد في ميدان رحب، ويكرع من العز في مشرب عذب. وكان له أدب بارع، وخاطر إلى نظم المحاسن مسارع. فمن ذلك ما بعثه عليه إيناس دهره وإسعاده، وقاله حين ألهته سلماه وسعاده (طويل) :
لِعَيْنِكِ في قَلبِي على عُيُونُ ... وبَيْنَ ضُلُوعِي للشُجُونِ فُنُونُ
لَئِنْ كان جِسْمي مُخلَقاً في يَدِ ألَوَى ... فحُبُّكِ غَضٌ في الفُؤادِ مَصُونُ
وله، وقد أصبح يوما عاكفا على حمياه، هاتفا بإجابة دنياه، مرتشفا ثغور الأنس متنسما رياه، والملك يغازله بطرف عليل، ويبرم من أنسه كل نحيل، والسعد قد عقد عليه أيَّ إكليلي، يصف لون مدامه، وما يعرف منها دون ندامه؛ فقال (كامل) :
صَفْراءُ تَبْرُقُ في الزُّجاج فإِنْ سَرَتْ ... في الجسم دبَّت مِثلَ صِّلٍ لادِغِ
عَبَثَ الزمانُ بحُسنِها فتستَّرَتْ ... عن عَيْنه ثَوْبِ نُورٍ سابِغِ
خَفِيَتْ على شُرَّابِها فكأنَّما ... يَجِدُونَ رِيِّا في إِناءِ فارِغِ
واستمر في حجابته، ومر بين سمع الدهر وإجابته، والنفوس العلية من تناهي حاله متغيرة، وفي تكيف سعده متحيرة. ولم يزل لنجاد تلك الخلافة معتقلا، وفي