الناصري له، وبها تم الأثر فيه؛ كما أن الحكم قد كان وقف في الأثر على البقعة التي بنيت فيها الزاهرة؛ وكانت ملوك المروانية تتخوف ذلك، وكان ألهجهم بشأنها الخليفة الحكم؛ فنظر في أمرها، وهي البقعة المعروفة بألش (بفتح اللام) ، وهي بغربي قرطبة؛ ووجد انتقال الملك إليها؛ فأمر حاجبه جعفرا بالسبق إليها والشروع في بنائها طمعا في مزية سعدها، وأن لا يخرج الأمر عن يد ولده؛ وأنفق عليها مالا عظيما؛ فكان من غريب الأمور أن محمد بن أبي عامر تولي النظر في شأنها مع من نظر فيها، وهو يومئذ في حال النتوة والاحتياج، ولا يعلم يومئذ به. فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء.
ثم رفع إلى الحكم أن البقعة بغير ذلك الموضع، وأنها بشرقي مدينة قرطبة؛ فأنفذ ثقته محمد بن نصر بن خالد للوقوف عليها، وانتهى إلى منزل أبي بدر المسمى بألش (مضمومة اللام) ، وأصاب هنالك عجوزا مسنة وافقته على حد الارتياد، وقالت له:(سمعنا قديما أن مدينة تبنى هنا، ويكون على هذا البئر نزول ملكها) . فعاد إليه محمد بن نصر بالجلية؛ فلم تطل المدة حتى بناها ابن أبي عامر، وتبوأ أرجاء ذلك البشر قرارة. وكان المنصور على ثقة من سرعة انتقال الملك إليه، لا يشك في ذلك لأنه تمكن من مطالعة ما كان عند الحكم؛ فوقف على الجلية.
ولم يزل الحكم يقدم محمدا ويؤثره، إلى أن ولي العهد ابنه هشام؛ فزاد مقداره لخاصته بولي العهد ومكانه من السيدة والدته؛ فاحتاج الناس إليه وغشوا بابه؛ فأنساهم من سلف من أصحاب السلطان سعة إشعاف، وكرم لقاء، وسهولة حجاب، وحسن أخلاق؛ فعرض جاهه، وعمر بابه، وأتسع في بناء داره بالرصافة، واتخذ الكتاب الجلة، واستصحب سراة الصحابة. وكانت مائدته موضوعة لمن ينتاب داره، وهمته تترامى إلى وراء ما يناله؛ وهو في هذا كله يغدو إلى دار جعفر بن عثمان المصحفي ويروح، ويصيح ببابه ويختص به.