للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا تصور للحظ؛ وقفت له في طريقه، أيام نهبه وأمره، أروم أن أناوله قصة كانت به مختصة؛ فوالله ما تمكنت من الدنو منه بحيلة، لكثافة موكبه، وكثرة من حفَّ به؛ وأخذ الناس السكك عليه وأفواه الطرق، ينظرون إليه ويسلمون عليه، حتى ناولت قصتي بعض كتابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القصص؛ فانصرفت، وفي نفسي ما فيها من الشرق بحاله والغصص، فلم تطل المدة حتى غضب عليه المنصور، واعتقله، ونقله معه في الغزوات ذليلا وحمله. واتفق أن نزلت بجليقية في بعض المنازل إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقد النيران ليخفي على العدو أثره، ولا ينكشف له خبره؛ فرأيت - والله - ابنه عثمان يسفه دقيقا قد خلطه نماء يقيم به أوده، ويمسك به رمقه بضعف حال، وعدم زاد ومال، وسمعته يقول (طويل) :

تأمْلتُ صَرْفَ الحادِثاتِ فلَم أزَلْ ... أراها تُوافي عِندَ مَقَدِها الحُرَّا

فلله أيَّام مَضَتْ لسيلها ... فإنِّيَ لا أنسَى لها أبداً ذِكرَا

تجَافَت بها عَنَّا الحوادِثُ بُرهَةً ... وأبدَتْ لنا منها الطلاقةَ والبشْرَا

ليَالِيَ لَم يَدرِ الزَّمانُ مَكانَنَا ... وَلا نَظَرتْ منَّا حَوَادِثُهُ الشَّزرَا

وَمَا هّذِهِ الأيَّامُ إلا سَحَائبٌ ... عَلَى كُلِّ أرضٍ تُمطرُ الخَيْرَ والشَّرَّا

وكان مما أعين به ابن أبي عامر على جعفر بن عثمان المصحفي ميل حلية الوزراء إليه وإيثارهم له عليه، وسعيهم في ترقيه، وأخذهم بالعصيبة فيه؛ فإنهم، وإن لم تكن لهم حمية أعرابية، فقد كانت سلفية سلطانية، يقتفى القوم فيها آثار سلفهم، ويمنعون بها ابتذال شرفهم؛ غادروها سيرة، وخلفوها عادة أثيرة، تشاح الخلف فيها تشاحَّ أهل الديانة، وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة؛ ورأوا أن أحدا من التوابع لا يدرك فيها غاية، ولا يلحق لها راية. فلما أحظى المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه، ووضعه من أثرته حيث وضعه، حسدوه وذموه، وخصوه بالمطالبة وعموه. وكان أسرع هذه الطائفة إلى مهاودة المنصور عليه، والانحراف

<<  <  ج: ص:  >  >>