للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صَبَرْتُ عَلَى الأيَّامِ لَمْا تَوَلتِ ... وألزَمتُ نَفْسِي صَبرَهَا فَاستَمَرَّتِ

فَيَا عَجَباً للقَلبِ كيفَ اصطِبَارُهُ ... وللنفِسِ بَعدَ العِزِ كيفَ استَذَلتِ

وما النَّفسُ إلاَّ حَيثُ يَجعَلُها الفَتَى ... فَإن طُمِعَت تَافَت وإلاَّ تَسَلَّتِ

وَكَانَت عَلَى الأيَّامِ نَفسِي عَزيزَةً ... فَلمَّا رَأتْ صَبرِي عَلَى الذُّلِّ ذَلَّتِ

وَقُلتُ لَهَا نَفسِ مُوتي كَرِيمةً ... فَقدْ كَانَتِ الدُّنيَا لَنَا ثُمَّ وَلتِ

وكان من هلاكه في محبسه هذا على يقين؛ وذلك أنه لما أمر به إلى المطبق، ودع أهله وولده ووداع الفرقة، وقال: (هذا وقت إجابة الدعوة! وأنا أرتقبه منذ أربعين ينة!) فسئل عما ذكره؛ فقال: (رفع على فلان أيام الناصر وسعى به إليه؛ فأشرفت على أعماله؛ فآل أمره إلى ضربه وتغير نعمته وإطالة حبسه. فبينا أنا نائم ذات ليلة، إذ أتاني آت؛ فقال لي: (أطلق فلانا؛ فقد أجيبت دعوته فيك؛ ولهذا أمر أنت لا بد لاقيه!) فانتبهت مذعورا، وأحضرت الرجل، وسألته إحلالي؛ فامتنع عليَّ؛ فاستحلفته على إعلامي بما خصني به من الدعاء؛ فقال: (نعم! دعوت الله أن يميتك في أضيق السجون كما أعمرتنيه حقبة.) فعلمت أنه قد وجبت دعوته، وندمت حيث لا ينفع الندم، وأطلقت الرجل؛ ولم أزل أرتقب ذلك في السجن.) فما لبث في السجن إلا أياما، وأخرج ميتا، وأسلم إلى أهله. فقيل: قتل خنقا في البيت المعروف ببيت البراغيت في المطبق؛ وقيل: دست إليه شربة مسمومة.

قال محمد بن إسماعيل، كاتب المنصور: (سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء لتسليم جسد جعفر إلى أهله وولده، والحضور على إنزاله في ملحده؛ فنظرت إليه ولا أثر فيه، وليس عليه شئ يواريه غير كساء خلق لبعض البوابين، ستره به. فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل؛ فغسله (والله!) على فرد باب اقتلع من ناحية الدار، وأنا أعتبر من تصرف الأقدار؛ وخرجنا بنعشه إلى قبره، وما معنا إلا إمام المسجد المستدعي للصلاة؛ وما تجاسر أحد على النظر إليه.) ثم قال: (وإن لي في شأنه لخبرا ما سمع بمثله طالب وعظ، ولا وقع في مسمع

<<  <  ج: ص:  >  >>