الأمر لنفسه وسبك الدولة على قالبه؛ فأداه ذلك إلى مضادة ما كانوا عليه؛ فعوض باللبن غلظة، وبالسكون حركة، وبالأناة بطشه، بالموادعة محاربي؛ فجعل أهل الرأي من مصادر أموره ومواردها يقصون بخروجها عن حد الصواب وقانون التدبير لها؛ وربما فاوض جلتهم الرأي، فيسيرون عليه من الوجه الذي عرفوه، والقانون الذي حمدوه؛ فيعدل عن ذلك إلى المذهب الذي شرعه، والطريق الذي نهجه، والخطر الذي لايجهل اقتحامه؛ فيبهت القوم من حسن ما يقع له.
قال الفتح بن خاقان: (فرد نابه على من تقدمه، وصرفه واستخدمه؛ فإنه كان أمضاهم سنانا، وأذكاهم جنانا، وأتمهم جلالا، وأعظمهم استقلالا. قال أمره إلى ما آل، وأوهم العقول بذلك المآل؛ فإنه كان آية الله في إتقان سعده، وقربه من الملك بعد بعده؛ بهر برفعه القدر، واستظهر بالأناة وسعة الصدر، وتحرك فلاح نجم الهدو، وتملك فما حقق بأرضه لواء عدو، بعد خمول كابد منه غصصا وشرفا، وتعذر مأمول صارد فيه سهرا وأرقا، حتى أنجز له الموعود، وفرَّ نحسه أمام تلك السعود. فقام بتدبير الخلافة، وأقعد من كان له فيها أنافة؛ وساس الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة؛ فانتظمت له الممالك، واتضحت به المسالك؛ وانتشر الأمن في كل طريق، واستشعر اليمن كل فريق. وملك الأندلس بضعا وعشرين حجة، لم تدحض لسعادتها حجة، ولم تزخر لمكروه بها لجة؛ لبست فيها البهاء والإشراق، وتنفست عن مثل أنفاس العراق. وكانت أيامه أحمد أيام، وسهام بأسه أسد سهام. غزا شاتيا وصائفا، ومضى فيما يروم زاجرا وعائفا؛ فأوغل في تلك الشعاب، وتغلغل حتى راع ليث الغاب، ومشى تحت ألويته صيد القبائل، واستجرت في ظلها بيض الظبى وسمر الذوابل؛ وهو يقتضي الأرواح بغير سوم، وينقضي الصفاح