وعمل داخلها الأهراء، وأطلق بساحتها الأرجاء. ثم أقطع ما حولها لوزرائه وكتابه، وقواده وحجابه؛ فاقتنوا بأكنافها كبار الدور، وجليلات القصور، واتخذوا خلالها المستغلات المفيدة، والمنازه المشيدة. وقامت بها الأسواق، وكثرت فيها الأرفاق؛ وتنافس الناس في النزول بأكنافها، والحلول بأطرافها، للدنو من صاحب الدولة، وتناهى الغلو في البناء حوله، حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة، وكثرت بحوزتها العمارة، واستقرت في بحبوحتها الإمارة. وأفرد الخليفة من كل شئ إلا من الاسم الخلافي، وصير ذلك هو الرسم العافي. ورتب فيها جلوس وزرائه، ورؤوس أمرائه، وندب إليها كل ذي خطة بخطته، ونصب على بابها كرسي شرطته، وأجلس عليه واليا على رسم كرسي الخليفة، وفي صفة تلك الرتبة المنيفة. وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة بأن تحمل إلى مدينته تلك الأموال الجبايات، ويقصدها أصحاب الولايات، وينتابها طلاب الحوائج، وحذر أن يعوج عنها إلى باب الخليفة عائج. فاقتضيت لديها اللبانات والأوطار، وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار. وهم لمحمد بن أبي عامر ما أراد، وانتظم بلبة أمانيه المراد؛ وعطل قصر الخليفة من جميعه، وصبره بمعزل من سامعه ومطيعه، وسد باب قصره عليه، وجدَّ في خبر ألا يصل إليه، وجعل فيه ثقة من صنائعه يضبط القصر، ويبسط فيه النهى والأمر، ويشرف منه على كل داخل، ويمنع ما يحذره من الدواخل؛ ورتب عليه الحراس والبوابين، والسمار والمنتابين، يلازمون حراسه من فيه ليلا ونهارا، ويراقبون حركاتهم سرا وجهارا؛ وقد حجر على الخليفة كل تدبير، ومنعه من تملك قبيل أو دبير. وأقام الخليفة هشام مهجور الفناء، محجور الغناء، خفي الذكر، عليل الفكر، مسدود الباب، محجوب الشخص عن الأحباب، لا يراه خاص ولا عام، ولا يخاف له بأس ولا يرجى منه إنعام، ولا يعهد منه إلاَّ الاسم السلطاني في السكة والدعوة، وقد نسخه وليس أبهته، وطمس بهجته. وأغنى الناس عنه، وأزال أطماعهم منه، وصيرهم لا يعرفونه، وأمرهم أنهم لا يذكرونه.