واشتد ملك محمد بن أبي عامر منذ نزل قصر الزاهرة، وتوسع مع الأيام في تشييد أبنيتها، حتى كملت أحسن كمال، وجاءت في نهاية الجمال، نقاوة بناء، وسعة فناء، واعتدال هواء رق أديمه، وصقالة جو اعتل نسيمه، ونضرة بستان، وبجة للنفوس فيها افتنان. وفيها يقول صاعد اللغوي (بسيط) :
يَا أيُّها المَلِكُ المَنصُورُ من يَمَنٍ ... والمُبتَنِى نَسَباً غَيرَ الذي انتَسَبَا
بِغَزوةٍ في قُلوبِ الشِركِ رلتِعةٍ ... بَينَ المنايا تُنَاغى السُّمرَ والقُضُبَا
أما تَرَى العَينَ تَجرِي فَوقَ مَرمَرِها ... زَهوا فَتُجرِي على أحسائها الطَّرَبَا
أجرَيتَها فَطَمَا الزاهِي بجِريتَها ... كَمَا طَمَوتَ فَسُدتَّ العُجمَ والعَرَبَا
تَخَالُ فيه جُنودَ الماءِ رافِلةً ... مُستَلئماتٍ تُربكَ الدَرعَ والبَلَبا
تَحُفُّها من فُنُونِ الأيكِ زَاهِرةٌ ... قد أورقت فِضِّةً إذ أثَمَرَت ذَهَبَا
بَديِعةُ المُلكِ ما يَنفَكُّ ناظِرُها ... يَتلُو على السَّمْعِ مِنها آيةً عَجَبَا
لا يُحسِنُ الدَّهرُ أن يُنشِي لَهَا مَثَلاً ... وَلضوْ تَعَنَّتَ فيها نَفسَهُ طَلَبَا
ودخل عليه عمرو بن أبي الحباب في بعض قصوره من المنية المعروفة بالعامرية، والروض قد تفتحت أنواره، وتوشحت بجاده وأغواره، وتصرف فيها الدهر متواضعا، ووقف بها السعد خاضعا؛ فقال (بسيط) :
لا يَومَ كاليومِ في أيَّامِك الأوَلِ ... بالعامِريَّةِ ذَاتِ الماء والطّلَل
هَوَاؤُها في جميعِ الدّهْرِ مُعتضدِلٌ ... طِيباً وإن حَلٌ فَصْلٌ غَيرُ مُعتَدِلِ
ما إن يُبالِي الذي يَحتَلُّ ساحَتَها ... بالسَعدِ ألاَّ تَحُلَّ الشَّمْسُ بالَحمَلِ
وما زالت هذه المدينة رائقة، والسعود بلَّبتها متناسقة، تراوحها الفتوح وتغاديها، وتجلب إليها منكسرة أعاديها، ولا تزحف منها راية إلا إلى فتح، ولا يصدر عنها تدبير إلاَّ إلى نجح، إلى أن حان يومها العصيب، وقبض لها من المكروه أوفر نصيب. فتولت فقيدة، وخلت من بهجتها كلَّ عقيدة.