وأشاع ابن أبي عامر أنَّ السلطان فوَّض إليه النظر في أمر الملك، وتخلَّى له عنه لعبادة ربه. وانبث ذلك في الرعية حتى اطمأنوا إليه، مع قوة ضبطه وسرعة بطشه. فانتظم له ذلك كلُّه وأكثر منه، بعد أن حصن قصر الخليفة في هذا الوقت بالسور الذي أدار حوله، وعمل الخندق المطيف به من جانبيه، والأبواب الوثيقة بالأحراس والسمار الذين وضعهم بأنقابه. ومنع الخليفة من الظهور، ووكل بأبوابه من يمنع وصول خبر إليه أو أمر من الأمور إلا عن إذنه؛ فإن عثر على أحد من الناس في تجاوز هذا الحد، عاجله ونكل به. والأخبار عنه في هذا المعنى واسعة جدا، غير أن الاختصار في ذلك أن ابن أبي عامر بلغ من ذلك مبلغا لم يبلغه قط متغلب على خليفة، لأنه احتوى على الملك كله، وصير الخليفة قبضة في يده، حتى أنه لم يكن ينفذ له أمر في داره ولا حرمه إلا عن إذنه وعلمه. وجعل متولي قصره من قبله من يثق به، وصيره عينا على السلطان، لا يخفى عليه شئ من حركاته وأخباره.
ولما ترقى ابن أبي عامر إلى هذا القدر، عمل في مكروه القائد الكبير غالب الناصري صهره، والتوطئة لأسباب هدمه. فرأى أن يبني عليه ضدا له من أصحاب السيوف والحرابة المشهورين، لأن غالبا كان يستطيل على ابن أبي عامر بأسباب الفروسية، ويباينه بمعاني الشجاعة، ويعلوه من هذه الجهة التي لم يتقدم لابن أبي عامر بها معرفة. فلم يجد لذلك مثل جعفر بن عليّ بن حمدون المعروف بابن الأندلسي شدة بأس، وربط جاش، ونباهة ذكر، وجلالة قدر. فجد في استجلابه، وهو مقيم بالعدوة. وآل عليّ ممن أطاع الخليفة هشاما من زناتة؛ فبعث ابن أبي عامر إليه، وتواترت كتبه إليه؛ فأسلم العمل إلى أخيه يحيى، وعبر إلى الأندلس بجيشه؛ فنزل قصر العقاب، بعد أن أعد له ما يصلح فيه. فاستوزره أبي عامر؛ فعظم شأنه، وأحله محل الأخ في الثقة، وقدمه على الكفاة؛ فوجد عنده ما أحبه، وفوق ما قدره؛ فاعتدل بالبرابرة أمره، وقوى