وكان المنصور متسما بصحة باطنه، واعترافه بذنبه، وخوفه من ربه، وكثرة جهاده. وإذا ذُكر الله ذَكر، وإذا خوف من عقابه ازدجر، ولم يزل متنزها عن كل ما يفتتن به الملوك سوى الخمر؛ لكنه أقلع عنها قبل موته بسنتين. وكان عدل المنصور في الخاصة والعامة، واطراحه المهاودة، وبسطه الحق على الأقرب فالأقرب من خاصته وحاشيته، أمرا مضروب به المثل.
ومن عدله أنه وقف عليه رجل من العامة يوما بمجلسه؛ فناداه:(يا ناصر الحق! إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك!) وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة، وكان له فضل محل عند ابن أبي عامر؛ ثم قال:(وقد دعوته إلى الحاكم؛ فلم يأت!) فقال المنصور: (أو عبد الرحمن بن فطيس بهذه المنزلة من العجز والمهانة، وكنا نظنه أمضى من ذلك؟ اذكر مظلمتك، يا هذا!) فذكر الرجل معاملة كانت جارية بينهما قطعها من غير نصف؛ فقال المنصور:(ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية!) ثم نظر إلى الصقلبي، وهو قد ذهل عقله؛ فقال:(ادفع الدرقة إلى فلان، وانزل صاغرا، وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك!) ففعل، ومثل بين يديه؛ ثم قال لصاحب شرطته الخاص به:(خذ بيد هذا الظالم الفاسق، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره!) ففعل ذلك، وعاد الرجل إليه شاكرا؛ فقال له المنصور:(قد انتصفت أنت؛ فاذهب لسبيلك. وبقي انتصافي أنا ممن تهاون بمنزلتي.) فتناول الصقلبي بأنواع من المذلة، وأبعده عن الخدمة.
ومن ذلك، قصة فتاه الكبير المعروف بالميورقى مع التاجر المغربي؛ فإنهما تنازعا في خصومة توجهت فيها اليمين على الفتى المذكور، وهو يومئذ أكبر خدم المنصور، وإليه أمر داره وحرمه؛ فدافع الحاكم، وظن أن جاهه يمنع من إحلافه. فصرخ التاجر بالمنصور في طريقه إلى الجامع متظلما من الفتى؛