اليوم دابة، واكتسى هو وولده كسوة متوسطة. فأمر بإحضاره من الغد، وأمر التاجر بالغدو إلى الباب؛ فحضر الرجل بعينه بين يدي المنصور؛ فاستدناه، والتاجر حاضر، وقال له:(سبب ضاع منا وسقط إليك: ما فعلت به؟) فقال: (هو ذا يا مولاي؟) وضرب بيده إلى حجزة سراويله، فأخرج الصرة بعينها؛ فصاح التاجر طربا، وكاد يطير فرحا؛ فقال له المنصور:(صف لي حديثها.) قال: (نعم! بينا أنا أعمل في جناني تحت نخلة، إذ سقطت أمامي؛ فأخذتها، وراقني منظرها؛ فقلت إن الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار؛ فاحترزت بها، ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة مثاقيل عيونا كانت معها مصرورة، وقلت: أقل ما يكون في كرم مولاي أن يسمح لي بها.) فأعجب المنصور ما كان منه، وقال التاجر:(خُذ صرَّتك، وانظرها، واصدقني عن عددها.) ففعل وقال: (وحق رأسك، يا مولاي، ما ضاع منها شيء سوى الدنانير التي ذكرها، وقد وهبتها له.) فقال له المنصور: (نحن أولى بذلك منك، ولا ننقص عليك فرحتك. ولولا جمعه بين الإفرار والإنكار) ، لكان ثوابه موفورا عليه.) ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضا من دنانيره، وللجنان بعشرة دنانير ثوابا لتأنيه عن إفساد ما وقع بيده، وقال:(لو بدأنا بالاعتراف قبل البحث، لأوسعناه جزاء!) قال: فأخذ التاجر في الثناء على المنصور، وقد عاوده نشاطه، وقال:(والله لأبثن في الأقطار عظيم ملكيك، ولأبينن أنك تملك طير عملك كما تملك انسها؛ فلا تعتصم منك ولا تؤذي جارك!) فضجك المنصور، وقال:(اقصد في قوله! يغفر الله لك!) فعجب الناس من تلطف المنصور في أمره، وحيلته في تفريج كربته.
وكان المنصور أشد الناس في التغير على من علم عنده شئ من الفلسفة والجدل في الاعتقاد، والتكلم في شئ من قضايا النجوم وأدلتها، والاستخفاف بشيء من أمور الشريعة. وأحرق ما كان في خزائن الحكم من كتب الدَّهريَّة