الموسوعات هذه بعيد القرن الخامس الهجري إذ بدأ الابتكار والتجديد يتراجعان وأصبح الانتاج الفكري ترديدا لما سبق، وجمعا لما تفرق إلا في القليل النادر. والأسباب تعود برأي أحمد أمين إلى عدة عوامل منها «تراجع العنصر العربي وضعف دوره في إدارة شؤون المملكة وتغلب العناصر الأخرى الفارسية والتركية على الحكم وكون بعض الولاة منهم لا يتقنون العربية فلما غلبت العجمة على أولي الأمر انحطّ شأن العلم والأدب، وبدأ احتضار العهد الذهبي للفكر العربي. وقد أشرنا فيما سبق إلى دور المعتزلة في تنشيط العقل العربي ولكنهم تراجعوا أمام الاشاعرة بفعل الضغط الموجه اليهم في عهد المتوكل العباسي وانتصر المنهج النقلي على المنهج العقلي. ومنها الموجة المدمرة والجاهلة التي اجتاحت العالم الإسلامي يقودها التتار بدءا من جنكيز خان وانتهاء بتيمور لنك، وما تخلل ذلك من سقوط أغلبية العالم الإسلامي بأيديهم وسقوط بغداد عاصمة العلم والحضارة واغراق مكتباتها العظيمة في دجلة. ومنها العصبية المذهبية الحادة التي انتشرت بين المسلمين فكنت ترى السنة ضد الشيعة، والشيعة ضد السنة، والصوفية ضد الفقهاء والشافعية ضد الحنفية وبالعكس، ومن المؤسف أن هذه الخلافات لم تقتصر على العلماء فقط وإنما اشترك فيها العامة فكانت النتائج فظيعة ومدمرة.
ولهذه الأسباب تراجع العقل والفكر العربيين وأقفل باب الاجتهاد وأقفل معه التقدم الفكري عند العرب، فكثر الاقبال على كتب الموسوعات، وعلى جمع المعاجم، اعتمادا على مخلفات الأجداد» (١).
[هـ -السر المصون ومؤلفها]
وسوف نتحدث عن مخطوطة «السر المصون» وأهمية موقعها بين كتب التراجم ونبدأ بالحياة الاجتماعية للمؤلف، أسرته، فثقافته، فنتاجه العلمي، ونقدم لذلك بإيراد نبذة عن أحوال دمشق الاجتماعية والعلمية.
[١ - بيئة المؤلف الاجتماعية والسياسية والعلمية]
شهد النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري خروج العالم العربي من دائرة الحكم التركي منهكا مقطع الأوصال، وقد نالت دمشق قسطا وافرا من ذلك بعد أن كانت تعيش وفي مخيلة أبنائها أحلام عراض تتمثل في وحدة عربية تعيد لها نضارتها ومركزها على مسرح التأريخ بقيام الدولة العربية الكبيرة التي تسترجع أمجاد الأمويين وعز بني العباس، فنام أهلها