للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والتراجم فن من فنون التأريخ، وإذا عرفنا ذلك ندرك أن المؤرخ قد يغفل عرض فكرة معينة، أو جانبا من حياة عظيم لهوى في النفس، فتأتي كتب التراجم والطبقات لتقدم لنا صورة نستشف منها ملامح الحياة الفكرية لعصر من العصور، أو الجانب المغفل من حياة المجتمع والفرد.

وكتب التراجم هذه تشارك في رسم صورة للعصر الذي عاش فيه المؤلف وذلك دفعنا إلى التغلغل في أعماق هذه الصورة والنفاذ إلى ما وراءها للوصول إلى الحقيقة التي ننشد عن وضع أي عصر من خلال علمائه وقادة الفكر فيه إذ هم مرآة هذا العصر وهداة البشرية بعد الرسل.

ولئن كان التأريخ يحدثنا عن السياسة والحكام وتقلبات الدول فإن كتب الطبقات والتراجم تهتم بنوع خاص بالتأريخ العلمي لكل أمة عبر تقديم رجالاتها لكل طالب علم وناشد حقيقة.

[أ-العلوم عند العرب وبدايات التدوين]

نجد لزاما علينا ونحن نتحدث عن العلوم عند العرب أن نتعرف اليهم في جاهليتهم فنجدهم يعيشون حياة بداوة قاسية تفتقر إلى الاستقرار ولا تسمح بنشوء نشاط ثقافي. ويرى ابن خلدون أن العلوم من جملة الصنائع، تكثر في الأمصار وتقل في البوادي فيقول: «وأعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لما كثر عمرانها صدر الاسلام واستوت فيها الحضارة كيف زخرت فيها بحار العلوم» (١).

وكانت الأمية متفشية بينهم إلا ما كان في حاضرتي العرب، مكة المكرمة والمدينة المنورة. حيث نرى وجودا محدودا للمثقفين لذلك لن نكون مغالين في وصف العرب قبل الإسلام بجهل الكتابة لندرة أدواتها لديهم واعتمادهم الذاكرة طريقة لحفظ آثارهم ورواية آدابهم وفي هذا الإطار يقول ابن خلدون: «إن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل الحيرة وهؤلاء تعلموا من الحميريين» (٢).

ولما جاء الإسلام وجد هذا الواقع يسيطر على بقاع مكة حاضرة العرب الأولى ووجد قريشا تعيش هذه الأمية التي تكاد تكون عامة فيهم فيقول أحمد أمين نقلا عن البلاذري: «إن الإسلام دخل مكة وفي قريش سبعة عشر رجلا يكتب» (٣). وهي مقولة لها من يروجها. بينما يشكك صبحي الصالح في صحتها على الاطلاق فيقول: «لأن هذه الأخبار إذا صحت أسانيدها لا تبلغ أن تكون إحصاء دقيقا» (٤). ومع ذلك فهو يسلم معنا في ندرة الكاتبين وقلتهم وأن الأمية


(١) ابن خلدون، المقدمة، ص ٥٤٨.
(٢) ابن خلدون، م. ن، ص ٦٥١.
(٣) أمين، أحمد، فجر الإسلام، ص ١٤٠ - ١٤١.
(٤) الصالح، صبحي، علوم الحديث ومصطلحه، ص ١٤.

<<  <   >  >>