في أيام المحن والشدائد حين كان التتار يثيرون الرعب في النفوس قبل قدومهم بوقت طويل إذا جاءت الإشاعة أنهم قادمون، وحين كان بعض هؤلاء القضاة والعلماء يحمل أولاده وأهل بيته وما يستطيع حمله من أثاث ومال مبتعدا بهم عن هذا الهول المرتقب القادم إلى دمشق، كان شيخ الإسلام ابن تيمية يلقي درسه في الجامع عن الجهاد في سبيل الله وفضله وفضل الانفاق فيه، بل ويصدر فتوى - يلزم بها الناس- بأنه لا يجوز لأحد الفرار من دمشق، بل يجب البقاء فيها لحمايتها من الأعداء، ويبقى أولئك العلماء في دمشق لكن أولادهم وأهليهم أرسلوهم إلى مصر وغيرها. وحين انتهت هذه المحن بطرد التتار وهزيمتهم برز ابن تيمية- كإمام من أئمة العلم والجهاد-، وصارت له الوجاهة والمنزلة عند الناس.
وهناك أسباب أخرى- لهذه المحن التي مر بها- تتعلق بمواقفه من أهل الكلام والتصوف والفلسفة، إذ لم تقتصر هذه المواقف على بيان مذهب السلف والسكوت عمن عداهم، أو بيان حرمة القول الفلاني أو خطئة فقط، أو غير ذلك من المواقف الباردة، بل كانت مواقفه قائمة على الرد على تلك الفرق والطوائف المختلفة، وذلك ببيان أصولها المنحرفة التي ترجع إليها ومناقضتها لأصول ومنهج السلف- رحمهم الله تعالى- فلما بدأ وهو الخبير بأصول الفرق ونشأتها وتطور المقالات الفلسفية والكلامية وكيف يؤثر بعضها على بعض ويتلقي بعضها من بعض؟ يشرح أصول أهل الكلام- وفيهم الأشاعرة- ويرجعها إلى أصول أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال، ويوضح أصول مذهب السلف وتميزها عن منهج هؤلاء جميعا، وكل ذلك بأسلوب علمى قوي قائم على الأدلة والنصوص والنقول عن كتب ومصادر هذه الطوائف مما لا يقدر أحد على إنكاره أو ادعاء التحريف في نقله لما صار يتحدث ويكتب بهذا الأسلوب أفزع أولئك العلماء المقلدة الذين نشأوا وتلقوا عن شيوخهم مذاهبهم وعقائدهم، وهم لا يشكون انها هي مذهب أهل السنة والجماعة.
لذلك قاموا على ابن تيمية يتهمونه بالطعن على السلف، ويدافعون عن المذهب الأشعري، فكانت بينه وبينهم صولات وجولات استمرت زمنا طويلا.