٣- أن أهل الحديث من السلف قاموا بمهمة كبرى، وتحملوا مسؤولية عظمى كان من آثارها أن تميزت هذه الأمة بميزة لم تكن لغيرها من الأمم، وذلك بما صار للمسلمين من خاصية الإسناد والرواية، التي حفظت بها معاني القرآن من أن يدخل فيها بالتحريف والتبديل، وحفظت بها السنة من أن يدخل فيها بالزيادة أو النقص، فنشأ علم الجرح والتعديل، وصدقهم أو كذبهم، ومعرفة الرواة ونقد الرجال أو فسقهم، بل فوق ذلك فيما يتعلق بقوة ضبطهم وحفظهم أو خفة ضبطهم ونسيانهم التي يتفاوت فيها حتى أهل الصلاح والتقوى، والعمل الصالح، فأهل الحديث بهذه الميزة صاروا - بتوفيق الله لهم - هم الأمناء على تبليغ وحي الله تعالى وحفظه، وإذا كانوا كذلك فهل من المعقول أن يعاملوا كغيرهم من الناس أو أن ينظر إلى علمهم وفقههم في دين الله كما ينظر إلى من عداهم ممن ليس له في تلك الجهود العظيمة نصيب، يقول شيخ الإسلام:" أقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق والبهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان..
وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيها لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة والقصص المأثورة، ما هو عن أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم، بتوسد أحدهم التراب، وتركهم لذيذ الطعام والشراب، وترك معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب، أمر حببه الله إليهم وحلاه ليحفظ بذلك دين الله كما جعل البيت مثابة للناس وأمناً، يقصدونه من كل فج عميق، ويتحملون فيه أموراً مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبب إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال، حكمة من الله يحفظ بها الدين، ليهدي المهتدين، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون" (١) ، ثم يقول: " وأهل العلم