فلما كان الأمر كذلك جاء بعض المتأخرين من أتباعهمن فنظروا في الأصول التي وافقوا فيها الجهمية، وأخذوا لوازمها.. وكان أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، فصار هو وغيره يقودون الأصول التي وافق قدماؤهم فيها المعتزلة فرأوا أن من لوازمها نفي أن يكون الله على العرش، فتظاهروا بإنكار ذلك موافقة للمعتزلة، ولم يكن الخلاف في ذلك مع المعتزلة من المسائل المشهورة لما قدمناه، وأما مسألة الرؤية والقرآن فهي من شعائر المذهبين، فجعلوا ينصبون الخلاف مع المعتزلة في مسألة الرؤية، ويسلمون لهم نفي علو الله على العرش، وهذا عكس الواجب " (١) .
فمن هذا التحليل الدقيق الذي بناه شيخ الإسلام على التفريق بين متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم، وأن المتقدمين لما ردوا على المعتزلة في المسائل المشهورة لم ينطلقوا من منهج السلف الخالص، وإنما ردوا عليهم ببعض الأصول الكلامية التي سلموها لهم، فلما جاء المتأخرون - وكان تأثرهم ومطالعتهم لكتب المعتزلة أقوى- التزموا لوازم تلك الأصول الفاسدة فنفوا العلو والصفات الخبرية ووافقوا المعتزلةفي كثير من المسائل، أو على الأقل لم يصبح الخلاف كبيراً وقوياً كما كان في السابق.
وقد شرح شيخ الإسلام بعض هذه الأصول التي تبعوا فيها المعتزلة فقال مخاطباً الأشاعرة: " وبالجملة فعامة ما ذمه السلف والأئمة وعابوه على المعتزلة من الكلام المخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم، لكم منه أوفر نصيب، بل تارة تكونون أشد مخالفة لذلك من المعتزلة، وقد شراكتموهم في أصول ضلالهم التي فارقوا بها سلف الأمة وأئمتها ونبذوا بها كتاب اله وراء ظهورهم، فإنهم لا يثبتون شيئاً من صفات الله تعالى، ولا ينزهونه عن شيء بالكتاب والسنة. والإجماع موقوف على العلم وبذلك، والعلم بذلك لا يحصل به لئلا يلزم الدور، فيرجعون إلى مجرد رأيهم في ذلك، وإذا استدلوا بالقرآن كان ذلك على وجه الاعتضاد والاستشهاد لا على وجه الاعتماد والاعتقاد، وما خالق قولهم تأولوه على مقتضى آرائهم، واستخفوا بالكتاب والسنة، وسموها ظواهر،