وقد كنا قدمنا مذهبهم في اشتراط إيقاع المأمور به، ونقضنا عليهم في الفصل الذي قبل هذا. وأنت إذا علمت ما نبهناك عليه، من النظر في الحد؛ هل يرجع لذات المحدود أو التفسير؟ انتبهت هاهنا إلى ما قاله هؤلاء في إبطال التعليل على الفقهاء بالصيغة والتجرد، لأن هذا الإبطال الذي ذكروه إنما يتحقق في تعليل العقليات، وأما تعليل الاصطلاحات فلا يستحيل فيه استعمال مثل هذا، فانتبه لما نبهناك عليه.
ولما ذكرنا مذاهب المعتزلة في افتقار الأمر إلى ثلاث إرادات اقتضى ذلك تبين أصولهم في أحكام الصفات التي يبني عليها هذا، فاعلم أنهم قالوا بافتقار الأمر إلى ثلاث إرادات لأجل ما اعتللنا به عنهم، سوى الكعبي فإنه ذهب إلى أنه إنما يفتقر إلى إرادتين، فأسقط من الثلاثة المتقدمة إرادة كونه أمرا، وذلك أنهم يقولون إن الصفات التي ليست بمعان قائمة بالذوات تنقسم إلى ما يعم حال الوجود، وحال العدم، وإلى ما يخص حال الوجود خاصة.
فالتي تعم حال الوجود والعدم هي الصفة التي هي أخص الأوصاف كالسوادية مثلا في السواد، فإن هذه الصفة تثبت بالسواد حال العدم والجود، وإذا ثبتت اقتضى ثبوتها صفات الأجناس العمة كاللونية والعرضية، فوجب لهذا أن يثبت في العدم للذوات، ما ذكرناه من الصفات الخاصة والعامة.
فإذا حصل الحدوث للذوات العدمية تبعته صفات تنقسم إلى قسمين: واجبة وجائزة. والواجبة لا تفتقر إلى مقتض، مثل تحيز الجواهر، وقبولها للعرض، وافتقار العرض إلى محل، ومضادته لما يضاده، وإيجاب العلل أحكامها، وبينهم اختلاف في الحسن والقبح هل هو من هذا القبيل، أو من القبيل الذي قبله، وهو الثالث حال الوجود والعدم، والجائز يفتقر إلى مقتض فالإحكام يفتقر إلى العلم عند أكثرهم، وإلى الإرادة عند أقلهم، ويشرط هؤلاء كون المريد عالما.
ومال ابن الجبائي منهم إلى مذهب ثالث يوافق ما عندنا، فقال: لو قيل إن المؤثر ففي الإحكام هو القدرة لكان مذهبا، وهذا مذهب لم يقل به أحد منهم، وإنما يرون أن القدرة تؤثر في الصفة الجائزة في الإحداث خاصة، ووقوع الصيغة أمرا وتهديدا، وإن وقعت أمرا وإيجابا، أو ندبا، يفتقر إلى الإرادة، وكذلك ما جرى على هذا الأسلوب من إيلام بعض الأشخاص استصلاحا، أو عقوبة، وإيقاع السجدة لله تعالى أو الوثن، إلى غير ذلك من مصارف الألفاظ، والأفعال المترددة بين أمرين أو أمور، وكذلك إرادة اللفظ المؤثر فيه.